لعل أوّل من تحدّث عن أسلمة أوروبا التي أثارهاالعقيد معمر القذافي في روما قبل أيام، وحولها قام جدل واسع كان المستعرب الأسباني"كوديرا" الذي دعا صراحة إلى «تعريب أوروبا وأسلمتها» مع مجموعة من المستعربينالأسبان الذين تجمّعوا حوله وأنشؤوا جماعة عُرفت "ببني كوديرا"... كان هؤلاء المستعربون مفتونين بالإسلام وكان الزمن الذي ظهروا فيه «الثلثالأول من القرن العشرين» زمن صراع بين من يرى أن المرحلة الأندلسية الإسلامية كانتمرحلة استعمار لأسبانيا، وبين من يرى أنها مرحلة مذهبية عاشت فيها إسبانيا أزهىعصورها التاريخية ويبدو أن «كوديرا» الذي عرفه الأمير شكيب أرسلان شخصياً في مدريدوتحدث عنه في كتابه «الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية»، كان من أصول موريسكيةأو أندلسية يشعر بأن الدم العربي يجري في عروقه. ولذلك يعيد شكيب اسمه إلى أصلهالعربي فيسميه «قديرة»، ويسمّى مريديه الآخرين «بني قديرة» وكان منهم مستعرب كبيركان أسقفا على إحدى المدن الأسبانية وهو ميغيل أسين بالاثيوس وهو باحث قدير فيالتصوف الإسلامي له كتاب عن ابن عربي نقله إلى العربية الدكتور عبدالرحمنبدوي. ومن قراءة هذا الكتاب تستنتج أن الأندلس لم تكن فقط بلد الثروبادوروالموشحات، وإنما كانت بلاداً غنية بالزوايا الصوفية وبتفاعل خصب بين الأديانالسماوية الثلاثة. فابن عربي كان نتاج الأندلس هذه قبل أن يكون نتاج المشرق. ويبدوأن كوديرا ومجموعته مالوا إلى إنصاف المرحلة الأندلسية، ورغبوا بإحياء أهم ما أعطتهوهو الروح الإسلامية التي لم تكن غرناطة وقرطبة وأشبيليا سوى بعض ثمارها لا أكثرولا أقل. ولأن أوروبا كانت غارقة يومها في المادية، فقد وجد هؤلاء أن الإسلامالذي وهب إسبانيا أثمن ما في تاريخها، كفيل بأن يهب أوروبا اليوم ما تحتاج إليه،وهو روحانيته. وقد عمل بنو كوديرا على تحقيق الكثير من مخطوطات العصر الأندلسيوالتعليق عليها. وتتضح كتاباتهم بافتتان غريب بالإسلام عُرف عن أجيال أخرى منالمستعربين اللاحقين، إلا أن حركتهم ظلت في الإطار الرومانسي البحت، صحيح أنالإسلام نما بعد ذلك لدى فئات كثيرة في المجتمع الإسباني والأوروبي المعاصر، إلاأنه لم يؤلف ظاهرة من الظواهر. فأوروبا قارة مسيحية بينها وبين الإسلام علاقاتقديمة معقدة تقوى وتضعف، ولكن الحديث عن أسلمتها إما انه حديث رومانسي أو غير علميعلى الإطلاق، وإما انه سابق لأوانه على الأقل. فالقارات لا تعتنق الأديان، بلالأفراد. ويبدو إنه كان لمفتي الديار المصرية الإمام محمد عبده رأي طريف فيموضوع إسلام أوروبا الذي يعود إلى الظهور بين وقت وآخر وكأن تحقيقه أمر سهل قريبالمنال. ففي سيرته التي كتبها صاحب «المنار» السيد محمد رشيد رضا أنه سُئل عندعودته من فرنسا بعد إصداره مع الأفغاني هناك مجلة «العروة الوثقى» عن مشاهداته فيأوروبا، فأجاب جوابا شهيراً وهو أنه وجد في أوروبا إسلاماً ولم يجد مسلمين، وإنهعندما عاد إلى بلاده وجد مسلمين ولم يجد إسلاماً. يريد الإمام محمد عبده أن يقولإن جوهر الإسلام هو التقدم والحضارة، وإنه حيث يكون هناك تقدم وحضارة يكون هناكإسلام بصرف النظر عما إذا كان أولئك الذين حققوا هذه النهضة العامة مسلمين أو غيرمسلمين، عندها يكون الإسلام راضياً كل الرضى عما تحقق لأن هدفه هو تحقيقذلك. وهذا ما أنجزه الإسلام في أزمنته الغابرة في بيئات وبؤر حضارية مشهورة مثلبغداد والأندلس التي أشرنا إليها وكانت في واقع أمرها مرحلة سماحة وتفاعل بينثقافات وشعوب وقارات. طبعا لا يقنع المسلمون اليوم بما قنع به الإمام محمد عبدهفالإسلام عندهم هو شعائره وطقوسه وأشكاله المعروفة التي يريدون من أهل باريس - علىسبيل المثال- أن يمارسوها لا في جامع باريس وحده، بل في جوامع بلا حصر في باريس وفيسواها من مدن فرنسا والغرب. وينسى هؤلاء المسلمون في حمّى مشاعرهم المتدفقة أنعليهم أن يسعفوا الأوروبيين وان يساعدوهم في الإقبال عليهم فحتى الساعة لا يجد أهلالغرب عموما في «القاعدة» ولا في الحركات الأصولية المنتشرة في الصومال واليمن ولافي ممارسات طالبان أو أي طالبان أخرى، ما يدفع بهم إلى تغيير معتقداتهم. ولا ننسىآخر ردة فعل لهم إزاء دعوتهم قبل أيام إلى تغيير دينهم، ورأيهم الصريح غاية الصراحةبمن دعاهم، وكون الأمل بإقبالهم علينا ضعيفا للغاية مع الأسف!. في القرآنالكريم" ...وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.."، وفيه أيضا اعتراف صريح بالأديانالسماوية، وإشارة بالغة الأهمية إلى ألاَّ يحاول أحدنا هداية أحد، فالله سبحانهيهدي من يشاء. وعند التأليف بين هذه الرؤى نجد رحابة في الأفق ونبلا في المقصدونظرة إنسانية إلى الآخر ميزت الإسلام عبر تاريخه، لم ينتشر الإسلام بالسيف كمايزعم خصومه، بل بالرحمة والحب والقدوة الحسنة ولأنه دين الفطرة قبل كل شيء. ولعلأنصع دليل على ذلك هو شبه القارة الهندية التي كانت ذات مرحلة تاريخية بوذية خالصةفتحولت مع الوقت إلى قارة شبه إسلامية. ليست أوروبا قارة عدوة بل قارة صديقةوبيننا وبينها من وشائج الصداقة ما يدفع إلى الاعتقاد أحياناً أنها قارة عربية أوإسلامية. وفي اعتقادي أننا إذا طمعنا إلى المزيد من «القرب» معها فعلينا أن نقنعهالا بمعتقداتنا الروحية، بل بلباقتنا وكفاءتنا الحضارية والاجتماعية. لا يمكن أنتفتح أوروبا قلبها الآن وهي تتصور أن «القاعدة» و«طالبان» وأخواتهما تنطق باسمناوتعبر عنا، وتمثل نخبة الرأي والفكر عندنا. في حين أننا عندما نذكرها بالأندلسودمشق الأموية وبغداد العباسية، فإنها ترفع رايات التعريب والإسلام، على النحو الذيرفعه ذات يوم كوديرا وبنوه.