اسمي محمد علي تونسي، ليس مهما أن أذكر لك تاريخ ميلادي بالضبط... قمحيّ اللون، أسود الشعر كما ترى.. ملامحي عربية جدا كما ترى.. كبرت مع الهم، ويبدو أنه ألِفني.. كنت أكبر خامس إخوة لأب يعمل في حضائر البناء، التي توفر له فرص الشغل بالصدفة، دخلت المدرسة، لكني لم أتجاوز المرحلة المتوسطة.. أظن أنني لم أكن غبيا، ولكن حساسيتي المفرطة لفقر عائلتي جعلتني أحدق في السبورة ببلاهة،.. ثم كرهت نفسي وأنا أرى والدي يعجز شيئا فشيئا عن تلبية احتياجاتي واحتياجات إخوتي في أبسط مستوياتها... لم نكن ندرك أن لنا حقوقا عند الدولة و المجتمع الذي ننتمي إليه.. أو فقل لم نكن ننتمي إلا شكلا... التحقت مبكرا بالحضائر حيث يعمل والدي، كنت كمغص ملازم له، كلما تأملني أرفع سطل (البغلي) لأضعه على السلالم... كان يبدو عليه الشعور بالدونية والعجز، إذ لم يتمنّ لي أن أكون مثله، مهدور العرق بدون أي ضمانات للمستقبل... لكنني كنت أفكر في حل جذري أجنب به إخوتي مصيري.. لقد غلب علي شعور التضحية من أجلهم... ثم وجدت نفسي بعد ثلاث سنوات، هناك بعيدا، وراء البحر، في بلاد الطليان... أو كما نختصرها نحن: في الطليان... كانت البدايات هناك مهينة... الفراش كرتون والغطاء كرتون... والمكان، الأزقة والزوايا المظلمة... وعند كل صباح نقف في ساحة كبيرة، ننتظر أصحاب الورش.. كنا نقفز في شاحناتهم المكشوفة بتزاحم مخجل.. دون معرفة نوع العمل ولا ثمن الخدمة.. لينزل الطلياني المشغل بعدها ثم يفرز منا من أعجبته عضلاته... وكم كنت أشعر بالتفاهة، عندما ينزلني ربّ الشاحنة قائلا: انزل، أنت نحيف جدا... وغالبا ما أبقى ضحى في الساحة حتى أفوز بمن يأتي متأخرا باحثا عن عامل.. تعودت مع الوقت على تلك المرارات.. حتى سلكت في البلاد.. ذات يوم مررت أمام مسجد صغير، هفا قلبي له... مرارة الغربة جعلتني أفكر في الله.. دخلت، لازلت أذكر الوضوء و الصلاة قليلا... شعور جميل بعث في فجأة عندما عانقت المسجد أول مرة... ولشدة فرحي اتصلت بوالدي ليلتها في هاتف بيت الجيران... تمكنت بعد فترة من مساعدة عائلتي في مصاريفها، ثم كلما وسع الله علي في الرزق وسعت عليهم... حتى قامت حرب البلقان... كانت الفضائع التي ترتكب بحق المسلمين، قد أفسدت علي حياتي.. وذات خطبة جمعة وراء إمام بكى لحال المسلمين وأبكانا، قررت التطوع للقتال دفاعا عن المسلمين... شهدت حصار سراييفو، وعايشت مذبحة سربرينيتشا، وشاركت مع متطوعين عرب في الدفاع عن المسلمين حتى وضعت الحرب أوزارها... كنت حريصا على الشهادة التي لم أُنلها... عدت بعدها إلى إيطاليا، عملت لأجمع مالا أعود به لزيارة أهلي... كان ذلك سنة 1996 للميلاد... لم أكن في حياتي مسيسا، ولا أزال أجهل السياسة وأهلها.. وصلت المطار، فحص العون جوازي وقال: أنت ذهبت إلى البوسنة؟ أجبته: نعم وجاهدت مع إخواني هناك، والحمد لله... قال ذلك الرجل الطيب: (برّ يا ولدي عليك ستر الله، ادخل وغادر من أمامي بسرعة..) هنا غضبت وصحت في وجهه: ولم، أنا لم أفعل إلا ما يشرفني ويشرف بلدي..أنا مجاهد... لم أكمل كلامي حتى جاء عون آخر من أمن المطار مستفسرا عن سبب صراخي.. قمت بإعادة نفس الكلام على مسامعه، أخذ جوازي قائلا: أهلا و سهلا بك في بلدك العزيز.. تفضل معي... هناك، في السجن كانت تنتابني كوابيس مرعبة، لست أدري أ لوحشية القصف الصربي الذي عايشته، أم لوحشية التعذيب في وزارة الداخلية، أم لوحشة 9 أفريل... كنت أستفيق ليلا صائحا: الإشارة يا أبا عبيدة، الإشارة... كنت هناك في البوسنة أدعى محمد علي تونسي، فصرت أدعى هنا: محمد علي إشارة.. ست سنابل من أعوامي قضيتها في الحبس والتنكيل، دون أن أعرف جرمي تجاه هذه البلاد بلدي.. والآن كما ترى، ربنا كما خلقتنا... قل لي بربك: هل أنا مواطن تونسي؟