في ذكرى ثورة المليون شهيد نريد من الجزائر العربية أن تظلّ عربيّة بقلم : الدكتور نورالدين بنخود رغم مرور أكثر من نصف قرن على انطلاق ثورة الجزائر الكبرى ضدّ الاستعمار الفرنسي في الفاتح من نوفمبر 1954 فإنها مازالت من أكثر الثورات العربية والإنسانية توهّجا وهي كامنة في ضمير كل عربي رمزا للإصرار على الحريّة والتمسّك بالمقاومة مهما يكن اختلال توازن القوى العسكري ظاهرا صارخا دافعا إلى اليأس والهزيمة. ليست ثورة الجزائر بالنسبة إلينا نحن العرب مجرّد تاريخ مجيد يملأ النفس بالاعتزاز وإنّما هي رمز حيّ نستحضره باستمرار في ظروف من الصّراع المستمر مع أعداء الأمّة. إنها قوّة معنوية جبّارة تشحن كل يوم مقاتلين عربا في جبهات الصّراع مع الصهاينة وحلفائهم الأمريكان ومع من يقف معهم سرّا أو جهرا. في تلك الأيّام، أيام مقاومة المستعمر الأوروبي بجميع لغاته وأشكاله كان المقاومون العرب في كل قطر يقاتلون عدوهم المباشر ولم يكونوا غافلين عن أوضاع شعبهم في الأقطار الأخرى، ولذلك سجّل لنا التاريخ المكتوب الكثير من أسماء الرّجال الذين أجبروا لهذا السّبب أو ذاك على الخروج من أقطارهم فارتحلوا حاملين بندقية المقاومة إلى قطر آخر، وما غفل عنه التاريخ المكتوب أكثر بكثير مما دوّن ولعل ما عجز عن تدوينه بدقة هو العون الشعبي بالمؤونة والعتاد والدعم المعنوي الهائل. ولقد وجد أبطال الجزائر دعما مستمرّا من إخوانهم العرب سواء بالمشاركة في القتال أو بغيره من وسائل الإسناد وخاصّة في القرى الحدودية التونسية والمغربية ووجدوا دعما ماليا وعسكريا وسياسيا من إخوانهم في مصر وقيادة ثورتها الناصرية. لا يتسع المجال لاستحضار ما ذكرته الوثائق عمّا قدّمته ثورة مصر الناصرية لثورة الجزائر وثورات عربية أخرى. وما كانت مصر وقتذاك دولة نفطية غنية بل كانت تبني بالقليل القليل بناء اجتماعيا واقتصاديا يكاد يكون مستحيلا بالحسابات الاقتصادية العادية، لم تكن مصر وقتذاك ذات فائض مادي ومع ذلك رأت من واجبها القومي أن تمدّ إخوانها في الجزائر والمغرب العربي بما تستطيع وفوق ما تستطيع حتى ظنّ الاستعمار الأوروبي أن الضّربة العسكرية ضرورية لينكمش المصريّون داخل حدودهم. فمن المعروف أنّ العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 كان من أسبابه دعم الثورة الناصرية لثوار المغرب العربي. لا يتسع المجال لاستحضار ما ذكرته الوثائق، ومع ذلك فمن الضّروري أن نتذكر سرّا من أسرار عظمة الثورة الجزائرية وبقائها منهلا للبطولة والفداء والمقاومة الشجاعة التي تسخر بالحسابات العسكرية الميكانيكيّة. كانت ثورة الجزائر ثورة عربيّة. كانت فصلا من أكثر فصول مقاومة شعبنا العربي للاستعمار القديم والجديد المتجدد قوّة إرادة فرديّة وجماعيّة ومشاركة سياسيّة وشعبيّة واسعة. كانت ثورة الجزائر ثورة عربيّة إنّها الثورة الكامنة في ضمائر الثوار العرب جيلا بعد جيل في مختلف جبهات الاشتباك مع الصهاينة والأمريكان. ولا يهمّنا أن نقول ذلك للذين يتحدثون اليوم عن "وطنية جزائرية" وكأن الجزائر لا علاقة لها بالعروبة من حيث التاريخ والواقع والذين ينبشون في المغاور بحثا عن آثار تاريخية تسمح لهم بالقول إن الجزائر جزائرية. كانت ثورة الجزائر ثورة عربيّة نحن نقولها للذين يدركون ذلك جيّدا، لهؤلاء الذين شاركوا أو شارك أجدادهم وآباؤهم في صنع الملحمة سواء أكانوا اليوم في مراكز القرار السياسي والإداري أم ركنوا إلى الراحة، وسواء أكانوا في جبهة التحرير أم كانوا مناضلين في غيرها من الأحزاب الجزائرية. لقد قيل إنّ الجزائر تحرّرت من الاستعمار الفرنسي فظلّت فرنسية. وما هو بخاف على أحد ما فعلته دولة الجزائر على اختلاف المسؤولين فيها من مجهود تعليمي وثقافي وحضاري هدفه ترسيخ عروبة الجزائر، ومشاركتها الفاعلة في قضايا الأمة. ولقد كان ذلك الإصرار على التعريب والانخراط الفاعل في قضايا العروبة من أسباب محاولات البعض في الداخل والخارج زعزعة الاستقرار الوطني بالإرهاب والتطرف الديني من جهة ونزعات الانفصال اللغوي والعرقي وجر الجزائر خارج محيطها العربي من جهة أخرى، تلك النزعات التي ترعاها ثقافيّا مراكز دراسات "علميّة" مائة بالمائة ويرعاها ماليا من وراء تلك المراكز عواصم حريصة على "السلام" حرصا لا غبار عليه. ولقد قيل إنّ الجزائر قد اتكأت على موقع استراتيجي في منطقتها وفائض في النفط والمال والسلاح مشكّلة بذلك قوة تريد أن تهيمن . وقيل تبعا لذلك إنّ الجزائر بسياستها تلك قد مثلت باستمرار معرقلا لأيّ محاولة بناء المغرب العربي.قيل الكثير. أمّا نحن فلا نبرّئ أحدا. ومع ذلك يظلّ لدينا أمل صادق في أن تقوم الجزائر بدورها العربي التي هي جديرة به، وتحديدا المساهمة مع بقية دول المغرب العربي في بناء "مغرب الشعوب" هذا الشعار الذي رفع يوما في عاصمة الجزائر نفسها. وبصرف النظر عن الأخطاء والمآزق التي وقعت فيها الحكومات الجزائرية المتعاقبة شأن غيرها من الحكومات العربية، فإنّ الجزائر اليوم بمؤسساتها الحكومية والحزبية والمدنية والثقافية هي وليدة تلك الثورة العربية الأبية ثورة المليون شهيد. إنّ سياسيّي الجزائر اليوم في الحكم والمعارضة ومثقفيها وصحفييها ومعلميها ومختلف العاملين والعاملات فيها بالفكر والساعد هم أبناء هؤلاء الأبطال الذين دوّنوا بدمائهم أبرز ملاحم تاريخنا العربي الحديث. والذي يقدّر ذلك يأبى إلاّ أن يرى الجزائر واقفة مع كل خطوة وحدوية مهما تكن بسيطة ولا يمكن أن يراها عاملة على دعم التجزئة بدعم فصائل انفصالية من أجل صنع دويِِْلة أخرى غير قابلة للوجود إلاّ بفتات الموائد الأمريكية. والذي يقدّر الجزائر حقّ قدرها يأبى إلاّ أن يراها من العاملين على حلّ المشاكل العربية الداخلية ضمن البيت العربي ولا يمكن أن يراها من المنتظرين وساطة بهلوان من المتلاعبين بالقانون الدّولي في المنظمات الأمميّة. والذي يقدر الجزائر العربية الأصيلة يأبى إلا أن يرى في تسلّحها إضافة ثمينة للتسلح العربي الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة وخاصة الصهاينة ولا يمكن أن يراها عاملة بذلك على صنع قوّة إقليميّة ضاربة مرعبة في جهة من مغرب الوطن وفي مواجهة آباء الأمس وإخوة اليوم. الذي يقدّر الجزائر حقّ قدرها يأبى إلاّ أن يراها كما كانت جزائر العروبة