كنت كلّ صبيحة يوم أحد من كلّ أسبوع آخذ ابنائي الثّلاثة الصّغار الى المدرسة القرآنيّة «عمر بن الخطّاب» بضاحية سكّرة وأضعهم بين يدي شيخ فاضل يشرف على حلقة لتحفيظ القرآن الكريم مفتوحة للعموم... كان أوّل من يستقبلنا لدى الباب مدير المدرسة الشّيخ الجليل حسن الورغي.. يستقبلنا - رحمه اللّه - وفي عينيه بريق جميل يجمع بين الغبطة والشّعور بالمسؤوليّة... كنت أحبّ أن أنظر في وجه هذا الشّيخ (حسن الورغي) وهو - لافقط - يرقب عن بعد وبسعادة بالغة سير حلقة تحفيظ القرآن بل وهو يعمد الى رمي كلّ من يلاحظ عليه السّهو والشّرود من جلّاس الحلقة بقطعة حلوى - نعم قطعة حلوى - يلتقطها المعني بالأمر (المستهدف) فتكون له بمثابة رسالة ليّنة حانية مضمونها أن «انتبه ودع الشّرود ولا تفوّت على نفسك متعة هذه اللّحظات القرآنيّة الربّانيّة».. أمّا أكثر ما كان يلفت انتباهي - في كلّ مرّة أحضر فيها وأبنائي الثّلاثة الى مدرسة «عمر بن الخطّاب» القرآنيّة - هو ذلك التّرحاب الكبير الّذي كان يبديه الشّيخ حسن الورغي نفسه - رحمه اللّه - بشيخ آخر من مدرّسي حلقات تحفيظ القرآن الكريم بالمدرسة لم يكن وقتها معروفا لدينا.. شيخ غير مسنّ تبين عليه أمارات التّواضع والتّقوى والعلم والصّلاح كان يأتي دائما بعد دقائق قليلة من انتظام حلقة التّحفيظ ... فبمجرّد أن يدخل علينا هذا الشّيخ الوقور يُهرع اليه الشّيخ حسن الورغي - على علوّ قدره ومكانته - ليستقبله ويقبّله من كتفه ثمّ يصحبه الى صدارة الحلقة ويجعله يتبوّأ المكان الّذي كان هو نفسه يشغله قبل قدوم هذا الشّيخ.. كنت أتساءل - بيني وبين نفسي - من عساه يكون هذا الرّجل الّذي بلغ مقامه عند الشّيخ المرحوم حسن الورغي كلّ هذا القدر.. ولماذا يُهرع اليه الشّيخ - وهو في عمر والده - ويقدّمه على نفسه ويجعله يتبوّأ صدارة الحلقة ؟ هذا التّساؤل كان يغيب عن ذهني بمجرّد أن يشرع هذا القادم الينا في تحفيظنا إحدى السّور القرآنيّة وتلقيننا مبادئ النّطق السّليم لحروفها وألفاظها... كنّا نشعر ونحن نستمع اليه يردّد على مسامعنا وعلى طريقته الهادئة المميّزة وبصوته الأبحّ الجميل هذه الآية أو تلك من هذه السّورة أو تلك وكأنّنا في حضرة - لا فقط - عالم بكتاب اللّه بل وأيضا في حضرة رجل صالح آتاه اللّه من فضله وفتح عليه من بركاته.. لذلك كنت ترانا - لافقط - نأسف لانقضاء وقت الحصّة - اذا ما انقضت - بل وأيضا نتدافع في نهايتها من أجل أن نسلّم عليه... ذلك هو الشّيخ الدّكتور عبد الرّحمان الحفيان الرّجل الّذي لم يعش الاّ للقرآن وبالقرآن... ذلك هو الشّيخ عبد الرّحمان الحفيان (شيخ القرّاء ومن أحفظهم وأعلمهم بكتاب اللّه على الاطلاق) الّذي شيّعته الجموع الغفيرة - عشيّة أمس الاثنين - الى مرقده في موكب حاشد خاشع بعد أن طبع الحياة الدّينيّة في تونس وعلى امتداد عقود بطابعه المميّز بصفته أحد أبرز مشائخ تحفيظ القرآن - لا في الحاضر فقط - بل وعلى امتداد تاريخ تونس الحديث.. رجل أخلص ولم يراء ولم يطمع فقيّض اللّه له من فضله في السّنوات القليلة الأخيرة - ومن خلال اذاعة الزّيتونة للقرآن الكريم تحديدا - من أتاح له المجال واسعا ورحبا وحرّا لكي يؤدّي رسالته الجليلة الّتي لم يعش الاّ من أجلها... رسالة تحفيظ القرآن الكريم وتلقين قواعد قراءته الصّحيحة للنّاشئة ولعموم النّاس الّذين عرفوه أكثر ما عرفوه وانتبهوا لمكانته وغزارة علمه وعلوّ قدره - أكثر ما انتبهوا - من خلال حصص تعليم القرآن برواية قالون عن نافع المدني الّتي دأب على تقديمها عبر اذاعة الزّيتونة للقرآن الكريم... رحم اللّه الشّيخ الدّكتور عبد الرّحمان الحفيان الرّجل القرآني الّذي أحبّ كتاب اللّه فحبّبه اللّه الى خلقه..