بسم الله الرحمان الرحيم لقد انسدت الآفاق وأغلقت السبل واسودت الدنيا في أرض كان من المفترض أن تكون حضراء يانعة، يعيشها أناس أجمع العالم على أنهم طيبون طيبة أرضهم، منفتحون انفتاح جغرافيتهم، معتدلون اعتدال مناخهم لقد أغلق الفساد السياسي كل باب للتعبير والمشاركة وتكريس للهوية والمواطنة لقد أغلق الفساد المالي والإقتصادي كل باب للتنمية الحقيقية للبلاد وكل فرصة للحياة الكريمة للمواطن لقد أغلق الفساد الإجتماعي والثقافي كل باب للتواصل الإجتماعي والنهضة الثقافية والترقي الحضاري تجويعا وإغراقا وحرقا فماذا بعد؟ إنه الإنغلاق التام الذي لم يترك للمواطن التونسي سوى جسده، به ومن خلاله يعبر عن مشاعر غضبه ودرجات يأسه فهذا المواطن يحرم من حقه في التعبير والتنقل والدواء والعمل والتواصل مع الآخرين فلا يجد من مساحة للتعبير ووسيلة للنضال غير جسده، فيضرب عن الطعام ويذيب جسده جوعا عسى أن يسمع صوته لمن بقيت لديهم آذان يسمعون بها أوقلوب يبصرون بها وهذا المواطن يحرم من حقه في العمل والعيش الكريم فيلقي بجسده في البحر، يضعه بين خيارين لا ثالث لهما إما جنات الشمال حيث الرفاه والأمان وإما بطون الحيتان، على أن لا يعيش في جحيم الفقر والقهر والطغيان وهذا المواطن يفني شبابه في طلب العلم عساه يحصل على شهادة تخول له العمل، فيحصل على الشهادة ولكن لا وجود لعمل، وما الخيار سوى العمل يعيل به أما وأخوات وإخوة، فيرضى بأي نوع من الإرتزاق، يقبل بما تيسر، فيتجول بين الشوارع والأسواق بائعا لخضروات أو ألعاب أو كل ما زهد من البضائع التي لا تشبع ولا تستهوي بطون "الكبار" ولكن وللأسف يمنع ويضرب ويهان، يذهب شاكيا إلى أولي الأمر فيقع صده وتغلق أمامه الأبواب، فلا يجد سوى جسده يشعل فيه نارا إسماعا لصوت مبحوح وتعبيرا عن يأس مطبق
رسالة الشاب محمد البوعزيزي في نقلهم للحادثة يخطئ الكثير في ربط إقدام الشاب محمد على حرق جسده بسوء معاملته من أعوان البلدية، فالشاب محمد لم يحرق جسده في ساحة السوق وإنما أحرق جسده أمام الولاية حيث ذهب شاكيا وطالبا للحق، وكأن الشاب يقول لنا أنه من الممكن أن تحدث تجاوزات من أعوان عاديون ولكن على المسؤولين إصلاح التجاوزات وإرجاع الحق لأهله ورد الإعتبار لهم، ولكن هؤلاء المسؤولين صموا آذانهم وأعرضوا عن سماعه وقبول شكواه، فهم سبب الداء وهم الذين يتحملون مع كل الجهاز الذي يمثلونه مسؤولية الذي حدث، فلو أنهم أحسنوا معاملته واستمعوا له وحفظوا له حقه ما كان ليضطر إلى حرق جسده، فالصد وسوء المعاملة هو الذي دفعه لذلك ولم يترك له مجالا غير الذي حدث، فتسليط الضوء على الأعوان لا يعطي المسألة حجمها الحقيقي ولا يعبر عن حقيقة الخلل بل قد يعطي للسلطة فرصة للتفصي من المسؤولية بتقديم هؤلاء الأعوان كبشا للفداء إذا لزم الأمر فالرسالة يقول فيها محمد ان الفاعل الحقيقي في ما حصل هو النظام السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي والقائمون عليه والمستفيدون منه والمروجون له، كما يتوجه محمد في رسالته إلى كل القوى الحية التي تدعي تمثيل طموحات الشعب، معاتبا إياها على تركه وحيدا في مواجهة الفقر والقهر والطغيان، فلو كانت هذه القوى الحية باختلاف مواقعها، موحدة متماسمكة متكاملة لنجحت في توفير شروط التغيير نحو تحقيق طموحات الشعب في الحرية والهوية والعدالة والتنمية
إن هذه التحركات العفوية النابعة من عمق الجرح الإجتماعي النازف قد تحدث شقوقا في جدار الإنغلاق وتحقق بعض المطالب الجزئية التي تخفف من بعض المعاناة ولكنها تحتاج إلى من يؤازرها ويوسع مداها ويردد صداها لكي تتواصل وتتطور لتحقيق المعالجات الضرورية للوضع المرضي التي تعاني منه بلادنا ويتألم منه شعبنا وهذا هوالدورالذي يقع على عاتق قوى الشعب الحية من حركة طلابية وحركة النقابية ومعارضة سياسية وطنية وكل الجمعيات والنخب، على أن تتخذ جميعها سبيل النضال شرطا للشرعية إن الشاب الذي فكر اليوم في حرق جسده تعبيرا عن يأسه قد يفكر غدا في مساحة للحرق أوسع من جسده، فاليأس يتفاقم وكل وسائل التعبير المتاحة لم تجدِ نفعا، فإلى ماذا سيدفع اليأس بشبابنا إذا لم نتدارك الأمر جميعا وفي العمق