إنتفاضة تونس : خطوة أخرى في الإتجاه الصحيح. فرحى دون غرور.
إندلاع إنتفاضة شعبية تلقائية في تونس حدث لا يمكن إلا أن يبث الفرح ويجدد الأمل في صدورنا جميعا. الأهم من الفرح هو تأطير الإنتفاضة في سياقها الصحيح زمانا ومكانا من جهة لأجل التأهل من بعد ذلك لحسن إستثمارها ومراكمة آثارها ومن جهة أخرى فإن الأهم من الفرح كذلك هو إلتقاط عبرها لأجل إلتزام العدل في الحكم على الأمور والأشياء. 1 المجاهدات والمغالبات تتكامل ولا تتنافى.
لقد ساءني جدا قول أحدهم في مقال منشور على الحوار.نت أن المرزوقي والغنوشي إنما يتوخيان الكلام وليس غير الكلام وهما يقيمان خارج الحدود بما يفيد أن الكاتب لا يقبل منهما حتى مجرد دعمهما للإنتفاضة التونسية التي لا يعد بها حقيقا غير المقيمين داخل تونس. ذاك منهج في التفكير يجب أن يسيء كل تونسي وطني غيور مخلص. تلك فكرة ليس لها من أرصدة الحق والعدل شيئا يذكر سواء إعتنقها هذا أو إنخرط فيها ذاك. هل سأل هذا الكاتب نفسه ما الذي أغرى المرزوقي والغنوشي بالإقامة في لندن وباريس؟ هل سأل نفسه عن الرصيد النضالي الكبير للرجلين في مقاومة الإستبداد حتى مع إختلاف المنطلقات؟ هل يوهمنا مسبقا أن كل تونسي مقيم في تونس هو بالضرورة مع الإنتفاضة وأن كل تونسي مقيم خارج البلاد لأي سبب كان ولو كان السبب هو المقاومة ذاتها قبل عقود هو بالضرورة عدو للمقاومة والإنتفاضة أو لا يحق له بحال أن ينبس ببنت شفة فيها؟ تلك إهتمامات جانبية فاسدة وأي إهتمام أفسد من تأخير الإهتمام بالإنتفاضة وتقديم الطعون في وجه هذا وذاك؟
جدير بأن يعي هذا الكاتب وغيره ممن يشغب عليه مثل ذلك التفكير العقيم أن النضالات تتكامل ولا تتنافى. بمثل تكامل سياسات بن علي وأصهاره مع سياسات بورقيبة .. بمثل تكامل حلقات الإفساد في تونس وغيرها تتكامل حلقات الإصلاح والمقاومة والإنتفاضة. هل يزعم زاعم أن الحركة الإسلامية التونسية لم تجن شيئا من الرصيد النضالي اليساري والشيوعي السابق عنها أو هل يزعم زاعم أنها لم تجن شيئا من الرصيد النقابي السابق عنها كذلك أو أن من جاء بعدها لم يجن من رصيدها النضالي شيئا كذلك؟ أليس فخرا للإسلاميين التونسيين أنهم كانوا من طلائع المعارضين لبن علي الذي تبين اليوم أن الشعب بأسره يلفظه ويلفظ سياساته على الملإ وفي الشوارع الملغمة بالبوليس السري والعلني والذخيرة الحية تفتك بالأحرار؟ أي إتجاه يتبناه من يحاول عبثا إلغاء الماضي بجرة قلم؟ ذلك هو الغرور سواء علم صاحبه أنه مصاب بأفتك داء إسم الغرور والعجب أم لم يع.
هب أن هذه الإنتفاضة لن ترغم بن علي على ترك السلطة وهو أمر لا يرضاه كل تونسي وطني غيور صادق ولكن يجب أن نضع كل الإحتمالات الواردة بسبب تعقد المشهد محليا وإقليميا وعربيا ودوليا.. هل نلعن هذه الإنتفاضة بعد سنوات أو شهور في أول فرصة لإنتفاضة جديدة؟ ألم تكن إنتفاضة سيدي بوزيد الراهنة ( رغم توسعها فيما بعد ) بنتا شرعية لإنتفاضة الرديف وبنقردان؟ لماذا يصر بعضنا على سياسة عبثية عنوانها : „ كلما جاءت أمة لعنت أختها”. 2 الإنتفاضة بين الجحود والتطرف.
قالة أخرى حضر موسمها اليوم بمناسبة هذه الإنتفاضة الشعبية الطيبة المباركة في تونس.قالة إذا كانت بريئة من في هذا فإن الدقة من في ذاك تنقصها. تلك هي قالة أن الإنتفاضة شعبية تلقائية لم يخطط لها أي حزب ولا حركة ولا منظمة ولم يقدها تيار. هذا كلام لئن صح فإن أقدارا كبيرة من الدقة تنقصه. هل يريد أولئك المتطرفين في هذا الإتجاه من التحليل أن يرفعوا تدخلات الأسباب كذلك ومعها سنن التغيير ليخرجوا علينا بنظرية الصدفة العبثية أو نشوء الإرتقاء الداروييني المفارق لسبب التواصل بين حلقات ذلك النشوء؟ أرأيت إبتداء كيف أن كل تطرف في أي إتجاه ولو كان صحيحا إنما يؤدي إلى ضد ما كنت تريد منه! لذلك فإنه ليس هناك في هذه الدنيا خير من إلتزام قيم العدل والحق وعدم بخس الناس بضاعتهم وأشياءهم.
الإنتفاضة اليوم يجحدها بن علي وأصهاره والمنتفعون معهم بلا حق في ثروة البلاد وهو جحود مفهوم ولا يرتقب من مصاصي الدماء في تونس غير ذاك.
إذا كان جحود الإنتفاضة أمرا مفهوما فإن غير المفهوم هو التطرف ذات اليمين أو الشمال في تحليل شأنها أو تقييم حصائلها أو غير ذلك مما يتصل بها. الإنتفاضة الراهنة لم تأت من فراغ شأنها شأن كل شيء في الوجود. عدم إتيانها من فراغ ليس مقصودا منه هنا تحديدا أن سياسات بن علي الخرقاء الموغلة في الجور والظلم هي التي أججتها. ذلك أمر مفهوم كذلك ومعلوم ولا يستحق تركيزا كبيرا. إنما المقصود بعدم إتيان الإنتفاضة الراهنة من فراغ هي جهات المعارضة الكثيرة والمختلفة التي ظلت قابضة بأيديها على المعارضة والنكير ضد بن علي وسياساته رغم سنوات الجمر الحامية جدا كمن يقبض بيده على الجمر بل أشد.
صلة الإنتفاضة الراهنة بكسب المعارضة التونسية من إسلاميين ويساريين ونقابيين وحقوقيين وإعلاميين وغيرهم .. تلك صلة معلومة لكل دارس ومحلل منصف يحترم نفسه ويفرض إحترامه على غيره. ذلك هو معنى أنها لم تأت من فراغ. تصور المشهد المقابل لتدرك أنه لو هرولت المعارضة الوطنية الجادة ( هيئة 18 أكتوبر مثلا وما ينضوي تحتها وغيرها من فعاليات معارضة سواء كانت حزبية أو سياسية أو مستقلة أو غير ذلك ).. لو هرولت تلك المعارضة بمثل ما هرولت ( معارضة ) أخرى ( الوحدات الشعبية والخضر والديمقراطيين الإشتراكيين وقطاع القوميين الملتحقين بما يسمى قديما حزب ديوان الزيت وغيرهم ممن صنعهم بن علي على عينه ).. لو هرولت تلك المعارضات الجادة كما هرولوا ولو لم تثبت الإطارات الوسطى للإتحاد العام التونسي للشغل إلخ .. لو لم يحدث ذلك لما إندلعت إنتفاضة ديسمبر 2010..
ذلك معطى تاريخي صحيح لا يجب إهماله ولكن ما ينبغي التطرف فيه حتى ينسب لأحد من تلك المعارضات أو النخب أو المنظمات أنها كانت تخطط لذلك تخطيطا عمليا مباشرا أو أنها هي التي تولت قيادتها أو توجيهها.. ولكن حدوث ذلك ليس نقيصة في المعارضة ( بمفهومها الشعبي المدني الواسع حتى خارج دائرة الأحزاب والمنظمات وغيرها ).. ذلك هو الذي يحدث غالبا في البلدان في التاريخ الحديث. عمل المعارضات ليس هو النيابة عن الشعب ولكن عمل المعارضات هو تأطير الشعب لذلك وتوعيته وتنويره ( باللهجة السودانية ) ومحاولة تفعليه لبلوغ تلك الدرجة. أما أن تقود معارضة إنتفاضة شعبية بكل معاني القيادة العملية الميدانية في نظام بوليسي قمعي مثل نظام بن علي فذلك أمر ليس منظورا. ليس ذلك منقصة في المعارضة. ولكن جانبا آخر من المعطى يغيب عنا في الأعم الأغلب وهو أن المعارضة في واد والشعب الثائر الهادر في واد آخر. ذلك معطى عادة ما يكون غير صحيح. لو أحصيت المنتفضين عمليا في الشوارع والمعتصمين في دور الإتحاد وغيرهم في إنتفاضة ديسمبر 2010 لألفيت بالتأكيد أن أغلبهم من المسيسين والنقابيين والمعارضين ومن في حكمهم ملتحمين مع أبناء البلاد من الشباب الذين طحنتهم سياسات السلب والنهب لبن علي وإصهاره على أن وجود هؤلاء أمر يغيظ السلطة بحق وجد لأنها تعتبر وجودهم هو وجود قيادة موجهة ومؤطرة. لا بد إذن بكلمة أن نقتصد في التحاليل والأوصاف إلتزاما للعدل والحق والقسط. فلا نعدو وراء كلمات لا يجني منها سوى عدو الشعب الذي يجني ونحن نحسب أننا نحسن للشعب عندما نضع مساهمة المعارضة بمعناها النخبوي والسياسي والفكري الواسع .. نضع عنها قسطها من المشاركة والتوجيه. ليس هناك فصل بين المعارضة وبين الشعب في الأصل وما الأخاديد التي يراها بعضنا فاصلة إلا من صنع السلطة التي ترهب الشعب بعصا البوليس وتحاول عزل المعارضة ورموزها عن الشعب. بذلك يكون تحليلنا متكاملا وموضوعيا وصحيحا يجمع كل عناصر المشهد من كل جوانبه قدر الإمكان وما أعقد الحركات الإجتماعية عند الدرس والتحقيق والتقصي لو يعلم الناس. 3 بن علي يحفر قبره بأسنانه.
الله وحده يعلم أن القلب ليخفق مع كل صيحة شعار يطلقه المنتفضون في تونس.. الله وحده يعلم أن الفؤاد يكاد يطير فرحا وبهجة بهذه الإنتفاضة.. الله وحده يعلم أن التونسي المبعد عن وطنه ظلما وجورا يعيش مع الإنتفاضة ليلها ونهارها. الله وحده يعلم أن المرء يتنمى لو كان مع تلك الجموع الشعبية في ساحة المجاهدة الحقيقية ضد الظلم والجور مجددا العهد مع المشهد ذاته ( مقر الإتحاد العام التونسي للشغل بمدنين مثلا عام 1985 في الأزمة الأولى ضد الإتحاد).. ولكن ما حيلة مبعد عن وطنه ظلما وجورا.. أليس قاسيا عليه جدا أن يوصف بعد كل ذلك بأنه ينعق من مكان بعيد.. أليس قاسيا عليه جدا أن يحرم حتى من كلمة يحبرها إنتصارا للإنتفاضة. الفارق شاسع بين بورقيبة الذي إنحنى للعاصفة في إنتفاضة أواخر ديسمبر 1983 في أول خطاب له متراجعا عن الزيادة في ثمن الخبز وبين خلفه الجنرال العجوز الذي توعد الإنتفاضة في أول ظهور له. 4 أنقذوا أنفسكم قبل أن تحشروا مع بن علي في هذه الدنيا.
الذين أوجه إليهم هذا الخطاب يعرفون أنفسهم. رسالتي إليهم أن ينقذوا أنفسهم بأي حركة كانت قبل أن يحشروا في هذه الدنيا ولا علاقة لي بالتألي عليه سبحانه تقديما بين يديه أن يحشر هذا مع ذاك أو تلك مع هذه يوم القيامة مع بن علي يوم يزول عنه سلطانه وينقلب عليه في الإعلام أشد الناس منه اليوم قربا وتصفيقا ونفاقا. تلك سنة مجربة ولم تعد تتطلب حشدا لأدلة. أشفق عليكم ورب الكعبة أن يرحل بن علي وأنتم لسياساته مباركين. لا بل حتى صامتين عن قول كلمة أو القيام بحركة أو مبادرة تبتعد بكم عن نتن هذا الجنرال العجوز وهو يوشك أن يودع السلطة في تونس. الأمر لم يعد يحتاج لحشد من التحاليل والمجادلات. قد يتمترس وراء توعده أياما أو شهورا أو سنوات قليلات بمثل ما تمترس وراءها الجنرال بينوشيه أو تشاوسيسكو أو غيرهما من الطغاة والجلادين والمجرمين.
أنقذوا أنفسكم ولا تلطخوا مجاهداتكم السابقة وسابقتكم السالفة بخاتمة سيئة بين يدي الجنرال العجوز. أكثر الحديث الذي كان الجدل حوله في أيام خاليات لم يعد له أي وجه. اليوم تأهل الشعب بنفسه للذود عن حياضه المداسة بمثل ما ترون وتتابعون.