مبروك للتونسيين بهروب " رأس الفساد والمفسدين " من البلاد، والعقبى لمعاونيه.... لا يمكن لظلم أن يستمر، سواءً كان ظلماً من فرد، أو من دولة، فالإنسان بطبيعته يتوق إلى الحرية، وإلى تكوين شخصيته المستقلة، هكذا الأفراد، وهكذا المجتمعات. النظام التونسي منذ عهد بورقيبة، وصولاً إلى عهد بن علي، وفق نشوئه، ووفق بنيته الأمنيّة، ووفق أحاسيس أفراد من العائلة الحاكمة بالتميّز والتمايز عن باقي المواطنين، شكل بقيادته المتعاقبة نموذجاً للظلم داخل تونس، وفي مهاجرها، بحق المعارضين لسياسته القمعية. لم يرَ النظام القائم في تونس، أن تجاربه المسيئة ستؤدي في زمن ما إلى انتفاضات قد تؤدي إلى انحسار فاعليته، وإلى تفككه إلى جماعات ليس لها وزن بين المجتمعات الدولية، ولا بين المواطنين التوانسة لما مارسوه من طغيان وجرائم إنسانية، وهزات اقتصادية أثارت كراهية العباد لهم. إن النظام التونسي اليوم، خاصة بعد هروب الطاغية بن علي، هو أشبه بمملكة بني عثمان في أخر أيام " عبد الحميد" اخصامه كُثر وأقوياء ومحدقين به من كل صوب، ومصممين على سحقه ، ولكنهم يتهيبون قوته ويتوهمون مناعته، فهم لو علموا بضعفه الداخلي وبفساد أعمال ما تبقى من رجاله السابقين، لما تأخروا بتسديد ضربة قاضية عليه. ولكن التونسيين المخلصين الذائبين في وطنيتهم منكمشون على أنفسهم، يراقبون مجرى الأمور بألم ومرارة، وما سكوتهم على " بادرة الغنوشي" ورفقائه من رموز النظام السابق إلا احتراماً لمشيئة الشعب، ومحافظة على مؤسسات الوطن التي يقدّسونها وقد أذابوا أزهار أعمارهم في سبيل إنشائها وبقائها وسلامتها، ويعلمون أن أيّة حركة عسكرية داخل الوطن قد تؤدي حتماً إلى كوارث. فإذا حاولوا هدم النظام قبل أن يعدّ أصحاب الاختصاص العدّة، وتحضير المواد البديلة لتغيير النظام، نحو الأفضل، فسيكون عملهم ناقصاً وبالتالي فاشلاً، وإذا حاولوا الترقيع على الطريقة العربية المعهودة، فستظهر العيوب العتيقة في ثوب النظام والوطن المهلهل.
صرح أحد أبرز المعارضين التوانسة في باريس "إن انتفاضة شعبنا في الداخل تجاوزت كثيراً البرامج السياسية لمعظم المفكرين التوانسة"؟ا... تًرى هل أطاحت الانتفاضة الشعبية خلال أيام قليلة بجميع البرامج السياسية، الاقتصادية، الفكرية والاجتماعية الجادة، الداعية إلى ترقية المجتمع التونسي لانتقاله إلى مكان يليق به تحت الشمس ؟ا.... انتفاضة تنطلق بسبب إقدام مواطن على حرق نفسه بسبب مصادرة بضاعته وإهانته شخصياً من قبل شرطية ؟ا.... تنتشر بسرعة هائلة ويلتف حولها العباد في معظم الجهات التونسية، كما في المهاجر، ومن جميع أطياف المجتمع التونسي، مسألة فيها نظر، وآلاف الأسئلة المحيّرة ؟ا.... انتفاضة كهذه هبّت بعد أن انتصب الحقد اليائس ، لفراغ عميق في نفس إنسان سعى إلى إفناء كل شيء ، انتفاضة كهذه تكون مرعبة، رهيبة، خطرة، وقد تحشد في نفسها كل ما في الإنسان من قوى تدميرية، وقد تخبئ للتونسيين مصيرا قاتماً كمصير أولئك الذين يعدون لها. شتان بين الانتفاضة البناءة، الواعية، وبين الانتفاضة التدميرية، العمياء.... الانتفاضة التي تحرق الممتلكات العامة، وتدمر الأبنية وتقلع الأشجار وتسرق المخازن هي انتفاضة عدميّة، انتفاضة بقايا عصابات "العائلة الهاربة" التي مولّت، وسلّحت عصابات مرتزقة لتقوم بخلق الفوضى في كل مكان، ولتبث الشغب والارتباك حيث تحل. انتفاضة تونس حتى الآن، لها شهوة طاغية، رعناء، تحطم حباً في التحطيم، تعبث بالعمران والأرواح، في السجون ومراكز الشرطة، تزمجر، وتهدد بالتدمير والتقويض، ونتائجها ستكون كالتالي: عودة أصحاب النفوذ من مافيات بن علي إلى التحكم بالسلطة. خسائر هائلة في الأرواح والماديات. غياب تونس عن الحركة العلميّة والثقافية العالمية المعاصرة. هروب الأدمغة التونسية. أزدياد حدّة الانقسامات الشعبية، السياسية والنقابية والاجتماعية. تمدد دولة إسرائيل سياسياً وأمنياً داخل المجتمع التونسي. ساذجاً كل السذاجة من يعتقد أن هذه الانتفاضة ستخرج تونس من محنتها دون الاستعانة ببرامج المبدعين من المفكرين التونسيين المتمرسين بالحياة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية. الانتفاضة الصحيحة هي التي تتبنى برامج وطنية ناضجة تختصر توق الشباب التونسي إلى نظرة نبيلة للحياة، برامج عصرية، علميّة أنجزها متفوقون تونسيون سبق لهم ودخلوا بيوت ومتاجر العباد، وحقول المزارعين ومصانع العمال، ومدارس وجامعات الطلبة. مناضلون ساروا إلى ساحات المواجهة مع الفاسدين بصمت هادئ أين منه هدير العواصف والمظاهرات والاحتجاجات، مفكرون يصممون فيقولون، ثم ينطلقون يقلبون القول عملاً والتصميم تنفيذاً، ويسيرون إلى السجون وفي قلوبهم أيمان وقوة، وفي نفوسهم حرية، يضحون بكل شيء في سبيل إعادة الهناء والعدالة للشعب التونسي، والمجد والعز للوطن التونسي. على قادة الانتفاضة الحالية الاستمرار في الجهاد على بقايا "السلطة الهاربة" لدفعها بالدرجة الأولى إلى إطلاق جميع السجناء السياسيين، والأدباء والشعراء وأصحاب العقول النيّرة الذين جاهروا بتقبيح الاستبداد، وإطلاق الحريات الفكرية، وعودة المبعدين. كما عليهم تنقية صفوف الانتفاضة من الطفيليين والنفعيين والخونة، ورص صفوف الشعب في جميع المدن والقرى التونسية لجولات جديدة من الصراع لكسب مواقف سياسية أخرى، والمساعدة لخلق نواة باستطاعتها وضع دستور جديد للبلاد لبناء دولة القانون والمؤسسات، ولإسترجاع الثروات السليبة، واحترام مقدّاسات الشعب، ولدعم انفتاح تونس وتكاملها مع محيطها الطبيعي. نتأمل من هذه الانتفاضة المباركة أن تستمر لتضع أساسات للحرية الفكرية والسياسية على أسس ثابتة لا تزعزعها تقلبات العهود لتصبح لهيبها نوراً ساطعاً ينير عقول العباد في جميع أنحاء تونس وعالمها العربي.