فيديو: كارثة بيئية تهدد خليج المنستير والمياه تتحول الي اللون الوردي بسبب التلوث    15 سنة سجنا ضد الصحبي عتيق: الناطق باسم محكمة أريانة يكشف ويوضح..#خبر_عاجل    عاجل : منها الترفيع في المنحة ...وزارة الصحة تزف أخبارا سارة للأطباء الشبان    زغوان: رصد اعتماد بقيمة 9ر1 مليون دينار لإعادة بناء مركب رعاية الطفولة ونادي التنشيط التربوي والاجتماعي بالزريبة قرية    قابس: أكثر من 250 مشاركا في الدورة 41 لمعرض قابس الدولي    عاجل : هيئة الرقابة النووية والإشعاعية في السعودية تحذر و تنشر هذا البيان الرسمي    منوبة: اصدار بطاقة إيداع بالسجن في حق مربي نحل بطبربة تسبب في حريق غابي    عاجل : تعرف على أول فريق يغادر كأس العالم للأندية 2025    بلاغ توضيحي للجنة الإنتخابات بالنادي الإفريقي للمنخرطين    نقل نجم ريال مدريد مبابي إلى المستشفى...تفاصيل    الترجي يعود لزيه التقليدي في مواجهة مصيرية ضد لوس أنجلوس في كأس العالم للأندية 2025    تونس: الدولة توفّر تذاكر سفر لعودة المهاجرين غير النظاميين    عين دراهم: حملة واسعة للتصدي للانتصاب الفوضوي    سحر البُن.. وعبق الإبداع والفن    اختتام مشروع "البحر الأزرق هود"    زيارة وفد نيابي الى المركب الصحي بجبل الوسط: تراجع خدمات المركب بسبب صعوبات عدة منها نقص الموارد البشرية وضعف الميزانية والايرادات    ارتفاع لافت في مداخيل السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج... مؤشرات إيجابية للاقتصاد الوطني    عاجل : أزمة جديدة تلاحق محمد رمضان    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    وائل نوار: الرهان المستقبلي لقافلة الصمود حشد مئات الآلاف والتوجه مجددا لكسر الحصار    حماية المستهلك والتجارة الإلكترونية: تذكير بالقواعد من قبل وزارة التجارة وتنمية الصادرات    وزير السياحة يؤدي زيارة إلى ولاية جندوبة    إزالة مخيم ''العشي'' للمهاجرين في العامرة..التفاصيل    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    منتدى الحقوق الاقتصادية يطالب بإصلاح المنظومة القانونية وإيجاد بدائل إيواء آمنة تحفظ كرامة اللاجئين وطالبي اللجوء    بداية من 172 ألف دينار : Cupra Terramar أخيرا في تونس ....كل ما تريد معرفته    عاجل: القلق الإسرائيلي يتصاعد بسبب تأجيل القرار الأميركي بشأن الحرب على إيران    صلاح وماك أليستر ضمن ستة مرشحين لجائزة أفضل لاعب من رابطة المحترفين في إنقلترا    وزير الإقتصاد في المنتدى الإقتصادى الدولي بسان بيترسبورغ.    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    من مكة إلى المدينة... لماذا يحتفل التونسيون برأس السنة الهجرية؟    عاجل: اتحاد الشغل يطالب بفتح مفاوضات اجتماعية جديدة في القطاعين العام والوظيفة العمومية    بلومبيرغ: إيران تخترق كاميرات المراقبة المنزلية للتجسّس داخل إسرائيل    ''التوانسة'' على موعد مع موجة حرّ جديدة في هذا التاريخ بعد أمطار جوان الغزيرة    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي يواجه الليلة لوس أنجلوس الأمريكي    بطولة برلين للتنس: أنس جابر توانجه اليوم التشيكية "فوندروسوفا"    ميسي يقود إنتر ميامي لفوز مثير على بورتو في كأس العالم للأندية    روسيا تحذّر أمريكا: "لا تعبثوا بالنار النووية"    صاروخ إيراني يضرب بئر السبع وفشل تام للقبة الحديدية...''شنو صار''؟    عاجل/ طهران ترفض التفاوض مع واشنطن    طقس اليوم: أمطار بهذه المناطق والحرارة في ارتفاع طفيف    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    ما تستهينش ''بالذبانة''... أنواع تلدغ وتنقل جراثيم خطيرة    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    بالفيديو: رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء...التفاصيل    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    شارع القناص ...فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي .. الثقافة وهواة اللقمة الباردة : دعم ومدعوم وما بينهما معدوم.. وأهل الجود والكرم غارقون في «سابع نوم»!    موسم الحبوب: تجميع4.572 مليون قنطار إلى غاية 18 جوان 2025    خطبة الجمعة... ذكر الله في السراء والضراء    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    وفاة أول مذيعة طقس في العالم عن عمر يناهز 76 عاما    أمطار أحيانا غزيرة ليل الخميس    بعد 9 سنوات.. شيرين تعود إلى لقاء جمهور "مهرجان موازين"    اطلاق بطاقات مسبقة الدفع بداية من 22 جوان 2025 لاستخلاص مآوي السيارات بمطار تونس قرطاج الدولي    وفاة 5 أعوان في حادث مرور: الحرس الوطني يكشف التفاصيل.. #خبر_عاجل    قرابة 33 ألفا و500 تلميذ يشرعون في اجتياز امتحان شهادة ختم التعليم الأساسي العام والتقني دورة 2025    أمل جديد لمرضى البروستات: علاج دون جراحة في مستشفى الرابطة.. #خبر_عاجل    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرية والعدل روح الحضارة وأصل الإبداع بقلم : عصام مساعد
نشر في الحوار نت يوم 31 - 12 - 2010

لما أراد الله سبحانه خلق آدم عليه السلام عرض الأمر على الملائكة في الملإ الأعلى و وجه إليهم خطاباً مباشراً قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً .....البقرة). وتلقت الملائكة هذا الخبر باستغراب وتساؤل يثير الدهشة! و يوحي أنها لم تكن مسلوبة الإرادة كما قد يظن البعض، بل كان لديها مساحة من الحرية مكنتها من أن تجرؤ على طرح مثل هذا التساؤل والاستفسار وتجري حواراً مع الله!!! (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.....البقرة). والأعجب أن يلاقى هذا الاستفهام والتساؤل بالقبول والإيجاب (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ....البقرة)، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلي سياق الأدلة والبراهين (وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنبُِٔونِى بِأَسْمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ قَالُوا سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ. قَالَ يََٰٓٔادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّىٓ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون.....البقرة )، فهل كانت الملائكة في حاجة إلي البينة؟؟، أم هل كان الله سبحانه في حاجة إلي أن يسوق لها الدليل؟؟، (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) لكنها صفاته التي تخبرنا عن صنيعه، فأي عدل وإنصاف وأي تودد لخلقه وتواضع، ما أجهلنا بربنا.

وتتواصل دلالات الحرية والعدل في قصة الخلق، فقد شاء سبحانه أن يستخلف الإنسان لعمارة الأرض ويحمله أمانة معرفته وإتباع منهجه، وكان ذلك يستوجب مواصفات حسية ونفسية خاصة تفي للنهوض بواجبات هذا التكليف والتزامات هذا الاستخلاف قال تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.....الملك). وبالرغم من أن هذه الخواص الحسية والشعورية الرفيعة تعتبر في ذاتها من النعم العظيمة التي تستوجب الشكر- كما أراد الله أن يشير في هذه الآيات- إلا أنها لا تميزنا عن باقي المخلوقات التي تشاركنا ذات الحواس، وبالتالي فهي لا تفي بحق القيام بواجب الأمانة والتزامات الاستخلاف. لذا جاء الخطاب في مناط التكليف لذاتالحواس مختلفاً، قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا......الإنسان) وهي إشارة للعقل والإدراك الذي هو مدار الابتلاء ومناط التكليف؛إذ البون شاسع بين من يسمع ويبصر والسميع البصير، وتأمل قول الله عز وجل:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ.....الأعراف ). والمعنى، إذا عطل العقل عن إدراك حقائق الأشياء ( يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ... الروم)فقد الإنسان خاصية الآدمية التي من أجلهاخلق، واشترك مع الحيوان في بقية الحواس فاستحق بذلك عقاب الله له.

والذي نريد أن نخلص إليه من هذا الطرح هو: هل العقل والإدراك كافٍ للقيام بواجب التكليف وأعباء الاستخلاف ؟؟؟ والإجابة: لا. لأن واجب التكليف قائم على إرادة الاختيار، ومجرد العقل والإدراك لا يفي بهذا الحق، والملائكة أبين دليل على ذلك. فالعقل والإدراك من صفاتها اللازمة لكنها لا تملك الإرادة في مسألة الاختيار فهي مجبولة على الطاعة وإرادة الخير وبالتالي لا يقع عليها التكليف. هي إذاً إرادة الاختيار. خاصية الإنسان الأولى التي ميزته عن سائر المخلوقات وخولته لحمل تكاليف الأمانة وأعباء الاستخلاف، قال تعالى: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.....الإنسان)أي سبيل الاختيار كما تبين الآيات التي تليها والله سبحانه وتعالى اعلم. ولكي لا نتيه في معرض هذا السياق بين المفاهيم المختلفة أقول: إن العقل والإرادة وجهان لعملة واحدة وكلاهما لا يعمل بمعزل عن الآخر فالإرادة بلا عقل لا معنى لها والعقل بلا إرادة لا يفي بواجب التكليف كما اشرنا سالفاً، فلا غنىً للإرادة عنعقل يوجهها ولا للعقل عن إرادة تدفعه.



ولتكتمل حلقة الحرية والعدل في قصة الخلق.. شاء سبحانه أن تكون إرادة العقل مطلقة، لا كوابح فيها لمساحات التفكير، فليس للعقل حدودٌ يقف عندها أو حواجز لا يمكنه تجاوزها؛ فللعقل أن يفكر متى شاء فيما شاء وكيفما شاءدون قيد أو شرط، ولا يلجم تيه العقول إلا العقول. وهذا من تمام العدل الذي يكافئ مقتضى التكليف، فلا يمكن لمسألة الاختيار أن تتم بمنتهى العدالة إلا إذا امتلك العقل مطلق الإرادة ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر....الكهف)، فأي حرية بعد هذا!.

ويتضح مما سبق أن الحرية ليست معنىً دخيلاً أو فكراً مستهجناً كما يحب أن يروج لها البعض بل يراها الإسلام فطرة أصيلة في صميم الإنسان ومكوناً أساسياً من مكوناته وحقاً طبيعياً ولد معه، تماماً كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه....الحديث) والمعنى والله أعلم: أن كل مولود يولد حراً وأبواه يكبلان أرادته ويُقيدان حريته بما لا يتواءم مع فطرته لأن الإسلام هو دين الفطرة كما هو معروف، لذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم "يسلمانه"، ويؤكد هذا المعنى النصوص القرآنية قال تعالى: ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل الحرية هي إرادة الاختيار ؟؟ أو دعنانطرح السؤال بشكل آخر، هل الحرية بمعناها المجرد قيمة مطلقة؟؟. أقول: للإجابة على هذا السؤال يجب أن ندرك أولاً العلاقة بين مفهوم الإرادة المطلقة وحدود التصرف في هذه الإرادة. الأصل أن حرية الإنسان في مسألة الاختيار غير مقيدة ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر) فهو حر بهذا المعنى حرية مطلقة. لكن بمجرد أن يختار فهذا يعني أنه وقّع عقداً بمطلق اختياره لتفويض الجهة المختارة بالتصرف في إرادته وفق نظم وقوانين ومنهج تلك الجهة، التي إما أن تكبل هذه الإرادة وتحبسها عن أداء ما أنيط بها من تكاليف أو تصقلها وتحافظ عليها وتوجهها للدور الذي من أجله منحت. و الغريب أن الإنسان لا يملك الإحجام عن مسألة الاختيار ولا يستطيع عنها فكاكاً فهو مدفوع لها دفعاً ولا مجال له إلا أن يختار بين أمرين أثنين لا ثالث لهما إما الحق أو الباطل ( إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.....الإنسان)، وليس هناك مجال ثالث للاختيار، حتى لو اختار أن لا يختار فهو في حقيقة أمره قد اختار. لذلك من يدعي الحرية في غير منهج الله فقد كذب لأن عملية الاختيار قدرية. حتى دعاة الليبرالية الذين انتفضوا على كل ما اعتبروه قيوداً وعلى رأسها الدين وظنوا أنهم تحرروا من كل الأغلال، هم في الحقيقة عبيد الحرية وأسراها. وخطؤهم الكبير في ذلك أنهم اعتبروها قيمة مطلقة اشتقت منها كل القيم وهي ليست كذلك، فهم قد وقعوا عقداً مع الحرية واعتبروها السلطة العليا ومصدر التشريع وأعطوها تفويضاً كاملاً للتصرف في عقولهم وهم اليوم يحصدون نتائج هذا المعتقد الخاطئ ويدفعون ثمناً باهظاً لأجل ذلك وخاصة على الصعيد الأخلاقي والإنساني والأمثلة أكثر من أن تحصى. لذلك من يختار الإسلامفقد أبرم عقداً مع الله وفوض رب العالمين للتصرف في إرادته من خلال الالتزام بتعاليم منهجه وهو بذلك قد اختار أن يعيش حراً، فلا حرية بلا إسلام ولا إسلام بلا عدالة. وتأمل هذه الآيات المعجزات، ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.. البقرة).



والحرية في الإسلام ليست فلسفة (أفعل ما بدا لك) فهي مسؤولية وتكاليف قبل أن تكون حقوقاً. فالفرد في الإسلام هو جزء من المجتمع الذي يعيش فيه له حقوق وعليه واجبات يجب عليه أن يؤديها؛ فالغني مستأمن في مال الله الذي عنده وللفقير حق في هذا المال، والمال في النهاية هو مال الله ، والأقارب لهم حق الزيارة و المواساة وحق الإنفاق إن كانوا فقراء ، وللجار حق كاد أن يصل إلي الميراث، وللوالدين حق الطاعة والإنفاق والإيواء...إلي آخر هذه المسائل التي ليس للفرد المسلم الخيار فيها بل هي واجبات تعاقد مع الله عليها مقابل سعادته في الدنيا والآخرة. وبهذا المعنى تصبح الحرية قيمة مقيدة بإتباع تعاليم المنهج الرباني الذي يسعى حثيثاً إلي تحرير الذات من كل أعداء الحرية من خلال مجاهدة النفس وتزكيتها من علائق الأهواء حتى تعود للإنسان فطرته الأولي ويرى الحق كما أراده الله؛ قال صلى الله عليه وسلم:(لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).

يقودناالسياق للحديث عن خصوم الحرية وأعداء العدل عن تلك الفئة في المجتمع الإنساني، التي تريد أن تفرض وصاية على العقل بمنطق الإكراه (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، وتكبح جماحالفكر بلجام الجهل تحت مسمى الدين و إيديولوجيات المذهب السياسي والمعتقد الفكري ومصوغات العرف والعادة والتقليد . تلك الفئة التي عجزت أن تفهم رسالة الله إليها ورهنت إرادتها لمصالحها وأهوائها واختارت أن تتخطى حاجز الحقيقة تحت جنح الظلام، فأبت إلا العبودية والقيد، متناسية أن الله سبحانه لم يفرض هذه الوصاية على عقول الخلق ولو شاء لفعل( لَايُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.....الأنبياء) ، ولم يشأ سبحانه أن يكبل إراداتهم بل خلقهم أحراراً ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )، أفيصعب علينا نحن أن نتعايش بهذا المفهوم؟؟؟.

لكنه منطق الظلم ونهج الاستبداد الذي نشأ في واقع الجهل وصنع عقلية العبيد، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ......النحل)

. صدق ربي العظيم. أكثرهم لا يعلمون أن الحضارات لا يصنعها العبيد، فلا يلوي عنق التاريخ إلا أحرار الرجال، إذ كيف يمكن لمن حجب عن حقيقة ذاته خلف أسوار إرادته الحبيسة أن يكون مبدعاً ؟. كيف يمكن لمن أضاع إنسانيته وفقد آدميته تحت تراكمات الجهل والظلم والتخلف أن يحق حقاً أو يبطل باطلاً.لا يصنع الحياة أشباه الناس وأنصاف البشر وأسرى الأهواء، ولن يجد الحلول من رهن عقله لإرادة غيره واتبع هواه، لن يقام العدل وتكون نهضة حتى تعود للإنسان فطرته ويدرك حقيقة ذاته وجوهر إنسانيته، ولن يكون ذلك حتى يخرج مارد الإرادة الحبيس من أغلال القيد ويعود العقل يحلق في أجواء الفطرة حراً طليقاً كما خلقه الله. ولن يحدث ذلك إلا في أجواء من الحرية والعدل، ولن يتحقق العدل والحرية إلا في ظل الإسلام فلا حرية بلا إسلام ولا إسلام بلا عدالة.

لكن عدالة الإسلام غابت مع قيمه الأصيلة ومعانيه العظيمة تحت ركام هائل من الجهل والتخلف، واخْتزل الإسلام الرحب في مفاهيم وتصورات ضيقة يعوزها الوعي وتفتقر إلي الأخلاقوحوصر في لباس ومظهر وتحول إلي مجرد شعائروطقوس لا روح فيها، وانتهى إلي زاوية ضيقة لاتسع أفراد الحي الواحد فضلاً عن البشرية جمعاء (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ......الأنبياء) وعاد الإسلام غريباً كما بدأ.

إن غياب قيم الإسلام ومعانيه الأصيلة عن الساحة الإنسانية عامةً والإسلامية خاصةً يجسده اليوم واقع مرير ويرسم أبرز معالمه طغيان سياسي وظلم اجتماعي وفوضى أخلاقية، وشلل وإرباك في شتى مناحي الحياة. لن تستفيق هذه الأمة من غفلتها وتستعيد دورها الحضاري في قيادة البشرية حتى تعود للإسلام في معانيه الأصيلة ويفهم الناس أن الإسلام قيم وأخلاق ومعانٍ إنسانية قبل أن يكون شعائر وعبادات وخلافات مذهبية، وقد قال رسول الإسلام: (إنأقربكممني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً). لكننا لا نجد من دعاة الإسلام اليوم إلا في ما ندر من يذكر بقيم الإسلام الغائبة بنفس الحماس والعمق الذي يدعو به في قضايا قد تأتي متأخرة جداً في سلم الأولويات، بالرغم من أن قيمةً مثل العدل والحرية هي من أوجب واجبات هذا الدين وأبرز مقاصده، بل إنها على رأس هرم القيم في النظام الإسلامي قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.....الحديد). وعلى دعاة الإصلاح اليوم ألا يستنزفوا جهودهم في البحث عن حلول في الشرق والغرب وينشغلوا بالفروع عن الأصول وبالواجب عن الفرض. فبالعدل والحرية تنهض الأمم وتبنى الحضارات.

عصام مساعد – سويسرا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.