استاذ موارد مائية يحذر من زلزال إثيوبيا وتداعياته على ليبيا و السودان    الداخلية: "الإجراء" ضد أحد المحامين جاء بعد معاينة جريمة "هضم جانب موظف عمومي أثناء آدائه لمهامه"    مجلس وزاري مضيق حول مشروع قانون أساسي يتعلق بتنظيم الجمعيات    عاجل: الإذن بالاحتفاظ بالمحامي مهدي زقروبة    المعهد الوطني للاستهلاك: توجه الأسر 5 بالمائة من إنفاقها الشهري إلى أطعمة يقع هدرها    سيدي بوزيد: توقّعات بارتفاع صابة الحبوب بالجهة مقارنة بالموسم الماضي    اصدار بطاقة ايداع في حق سنية الدهماني    موقعا قتلى وجرحى.. "حزب الله" ينشر ملخص عملياته ضد الاحتلال يوم الاثنين    الصحة الفلسطينية: القصف الإسرائيلي على غزة يُخلّف 20 شهيدا    فرنسا.. 23 محاولة لتعطيل مسيرة الشعلة الأولمبية على مدى أربعة أيام    كاس تونس لكرة القدم : برنامج مباريات الدور ثمن النهائي    اتحاد تطاوين - سيف غزال مدربا جديدا    على خلفية حادثة حجب العلم الوطني بالمسبح الاولمبي برادس ... فتح بحث تحقيقي ضد 9 أشخاص    صفاقس: الإذن بفتح بحث تحقيقي في ملابسات وفاة شاب عُثر عليه ميّتا في منزله بطينة (الناطق باسم المحكمة الابتدائية صفاقس 2)    مصدر قضائي: الإذن بإيقاف شخصين من دول إفريقيا جنوب الصحراء من أجل شبهة القتل العمد مع سابقية القصد    مصالح الحرس الديواني تحجز خلال الأربعة أشهر الأولى من سنة 2024 كميات من البضائع المهربة ووسائل النقل قيمتها الجملية 179 مليون دينار    تشكيات من تردي الوضعية البيئية بالبرج الأثري بقليبية ودعوات إلى تدخل السلط لتنظيفه وحمايته من الاعتداءات المتكرّرة    القصرين : عروض الفروسية والرماية بمهرجان الحصان البربري وأيام الإستثمار والتنمية بتالة تستقطب جمهورا غفيرا    وزارة الشؤون الثقافية: الإعداد للدّورة الرّابعة للمجلس الأعلى للتعاون بين الجمهورية التونسية والجمهورية الفرنسية    جراحة التجميل في تونس تستقطب سنويا أكثر من 30 ألف زائر أجنبي    سليانة: تقدم عملية مسح المسالك الفلاحية بنسبة 16 بالمائة    جراحو القلب والشرايين يطلعون على كل التقنيات المبتكرة في مؤتمرهم الدولي بتونس    في معرض الكتاب بالرباط.. احبها بلا ذاكرة تحقق اكبر المبيعات    كرة اليد.. تحديد موعد مباراتي نصف نهائي كأس تونس    وزارة الصحة تنتدب 3000 خطة جديدة خلال السداسي الثاني من 2024    طقس الليلة.. امطار متفرقة ورعدية بعدد من الجهات    ''قطاع التأمين: ''ندعم قانون المسؤولية الطبية.. فلا بد من تأطير قانوني    سعيّد: "أكثر من 2700 شهادة مدلّسة.. ومن دلّسها يتظاهر اليوم بالعفّة"    وزير الفلاحة: مؤشرات إيجابية لتجربة الزراعات الكبرى في الصحراء    سوسة: سائق سيارة تاكسي يعتدي بالفاحشة على قاصر    بنزرت: ضبط ومتابعة الاستعدادات المستوجبة لإنجاح موسم الحصاد    البنك التونسي ينفذ استراتيجيته وينتقل الى السرعة القصوى في المردودية    المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات: الشركة التونسية للبنك تدعم مقاربة الدولة للأمن الغذائي الشامل    معين الشعباني: سنذهب للقاهرة .. كي ندافع عن حظوظنا مثلما يجب    من هو وزير الدفاع الجديد المقرب من فلاديمير بوتين؟    عاجل : الكشف عن وفاق اجرامي يساعد الأجانب دخول البلاد بطرق غير قانونية    الكرم: القبض على افريقي من جنوب الصحراء يدعو إلى اعتناق المسيحية..وهذه التفاصيل..    مغني الراب سنفارا يكشف الستار : ما وراء تراجع الراب التونسي عالميا    نور شيبة يهاجم برنامج عبد الرزاق الشابي: ''برنامج فاشل لن أحضر كضيف''    5 جامعات تونسية تقتحم تصنيفا عالميا    تفاصيل جديدة بخصوص الكشف عن شكبة إجرامية دولية للاتجار بالمخدرات..#خبر_عاجل    مسؤولة بالستاغ : فاتورة الكهرباء مدعمة بنسبة 60 بالمئة    وفاة أول متلقٍ لكلية خنزير بعد شهرين من الجراحة    نائبة بالبرلمان : '' سيقع قريبا الكشف عن الذراع الإعلامي الضالع في ملف التآمر..''    راس الجدير: ضبط 8 أفارقة بصدد التسلل إلى تونس بمساعدة شخص ليبي..    بطولة ايطاليا: تعادل جوفنتوس مع ساليرنيتانا وخسارة روما أمام أتلانتا    المالوف التونسي في قلب باريس    دربي العاصمة 1 جوان : كل ما تريد أن تعريفه عن التذاكر    مصر: انهيار عقار مأهول بالسكان في الإسكندرية وإنقاذ 9 أشخاص    نتنياهو: نناقش "نفي قادة حماس.."    بين الإلغاء والتأجيل ... هذه الأسباب الحقيقة وراء عدم تنظيم «24 ساعة مسرح دون انقطاع»    دراسة تربط الوزن الزائد لدى الأطفال بالهاتف والتلفزيون..كيف؟    مئات الحرائق بغابات كندا.. وإجلاء آلاف السكان    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرية والعدل روح الحضارة وأصل الإبداع بقلم : عصام مساعد
نشر في الحوار نت يوم 31 - 12 - 2010

لما أراد الله سبحانه خلق آدم عليه السلام عرض الأمر على الملائكة في الملإ الأعلى و وجه إليهم خطاباً مباشراً قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً .....البقرة). وتلقت الملائكة هذا الخبر باستغراب وتساؤل يثير الدهشة! و يوحي أنها لم تكن مسلوبة الإرادة كما قد يظن البعض، بل كان لديها مساحة من الحرية مكنتها من أن تجرؤ على طرح مثل هذا التساؤل والاستفسار وتجري حواراً مع الله!!! (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.....البقرة). والأعجب أن يلاقى هذا الاستفهام والتساؤل بالقبول والإيجاب (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ....البقرة)، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلي سياق الأدلة والبراهين (وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنبُِٔونِى بِأَسْمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ قَالُوا سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ. قَالَ يََٰٓٔادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّىٓ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون.....البقرة )، فهل كانت الملائكة في حاجة إلي البينة؟؟، أم هل كان الله سبحانه في حاجة إلي أن يسوق لها الدليل؟؟، (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) لكنها صفاته التي تخبرنا عن صنيعه، فأي عدل وإنصاف وأي تودد لخلقه وتواضع، ما أجهلنا بربنا.

وتتواصل دلالات الحرية والعدل في قصة الخلق، فقد شاء سبحانه أن يستخلف الإنسان لعمارة الأرض ويحمله أمانة معرفته وإتباع منهجه، وكان ذلك يستوجب مواصفات حسية ونفسية خاصة تفي للنهوض بواجبات هذا التكليف والتزامات هذا الاستخلاف قال تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.....الملك). وبالرغم من أن هذه الخواص الحسية والشعورية الرفيعة تعتبر في ذاتها من النعم العظيمة التي تستوجب الشكر- كما أراد الله أن يشير في هذه الآيات- إلا أنها لا تميزنا عن باقي المخلوقات التي تشاركنا ذات الحواس، وبالتالي فهي لا تفي بحق القيام بواجب الأمانة والتزامات الاستخلاف. لذا جاء الخطاب في مناط التكليف لذاتالحواس مختلفاً، قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا......الإنسان) وهي إشارة للعقل والإدراك الذي هو مدار الابتلاء ومناط التكليف؛إذ البون شاسع بين من يسمع ويبصر والسميع البصير، وتأمل قول الله عز وجل:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ.....الأعراف ). والمعنى، إذا عطل العقل عن إدراك حقائق الأشياء ( يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ... الروم)فقد الإنسان خاصية الآدمية التي من أجلهاخلق، واشترك مع الحيوان في بقية الحواس فاستحق بذلك عقاب الله له.

والذي نريد أن نخلص إليه من هذا الطرح هو: هل العقل والإدراك كافٍ للقيام بواجب التكليف وأعباء الاستخلاف ؟؟؟ والإجابة: لا. لأن واجب التكليف قائم على إرادة الاختيار، ومجرد العقل والإدراك لا يفي بهذا الحق، والملائكة أبين دليل على ذلك. فالعقل والإدراك من صفاتها اللازمة لكنها لا تملك الإرادة في مسألة الاختيار فهي مجبولة على الطاعة وإرادة الخير وبالتالي لا يقع عليها التكليف. هي إذاً إرادة الاختيار. خاصية الإنسان الأولى التي ميزته عن سائر المخلوقات وخولته لحمل تكاليف الأمانة وأعباء الاستخلاف، قال تعالى: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.....الإنسان)أي سبيل الاختيار كما تبين الآيات التي تليها والله سبحانه وتعالى اعلم. ولكي لا نتيه في معرض هذا السياق بين المفاهيم المختلفة أقول: إن العقل والإرادة وجهان لعملة واحدة وكلاهما لا يعمل بمعزل عن الآخر فالإرادة بلا عقل لا معنى لها والعقل بلا إرادة لا يفي بواجب التكليف كما اشرنا سالفاً، فلا غنىً للإرادة عنعقل يوجهها ولا للعقل عن إرادة تدفعه.



ولتكتمل حلقة الحرية والعدل في قصة الخلق.. شاء سبحانه أن تكون إرادة العقل مطلقة، لا كوابح فيها لمساحات التفكير، فليس للعقل حدودٌ يقف عندها أو حواجز لا يمكنه تجاوزها؛ فللعقل أن يفكر متى شاء فيما شاء وكيفما شاءدون قيد أو شرط، ولا يلجم تيه العقول إلا العقول. وهذا من تمام العدل الذي يكافئ مقتضى التكليف، فلا يمكن لمسألة الاختيار أن تتم بمنتهى العدالة إلا إذا امتلك العقل مطلق الإرادة ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر....الكهف)، فأي حرية بعد هذا!.

ويتضح مما سبق أن الحرية ليست معنىً دخيلاً أو فكراً مستهجناً كما يحب أن يروج لها البعض بل يراها الإسلام فطرة أصيلة في صميم الإنسان ومكوناً أساسياً من مكوناته وحقاً طبيعياً ولد معه، تماماً كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه....الحديث) والمعنى والله أعلم: أن كل مولود يولد حراً وأبواه يكبلان أرادته ويُقيدان حريته بما لا يتواءم مع فطرته لأن الإسلام هو دين الفطرة كما هو معروف، لذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم "يسلمانه"، ويؤكد هذا المعنى النصوص القرآنية قال تعالى: ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل الحرية هي إرادة الاختيار ؟؟ أو دعنانطرح السؤال بشكل آخر، هل الحرية بمعناها المجرد قيمة مطلقة؟؟. أقول: للإجابة على هذا السؤال يجب أن ندرك أولاً العلاقة بين مفهوم الإرادة المطلقة وحدود التصرف في هذه الإرادة. الأصل أن حرية الإنسان في مسألة الاختيار غير مقيدة ( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر) فهو حر بهذا المعنى حرية مطلقة. لكن بمجرد أن يختار فهذا يعني أنه وقّع عقداً بمطلق اختياره لتفويض الجهة المختارة بالتصرف في إرادته وفق نظم وقوانين ومنهج تلك الجهة، التي إما أن تكبل هذه الإرادة وتحبسها عن أداء ما أنيط بها من تكاليف أو تصقلها وتحافظ عليها وتوجهها للدور الذي من أجله منحت. و الغريب أن الإنسان لا يملك الإحجام عن مسألة الاختيار ولا يستطيع عنها فكاكاً فهو مدفوع لها دفعاً ولا مجال له إلا أن يختار بين أمرين أثنين لا ثالث لهما إما الحق أو الباطل ( إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.....الإنسان)، وليس هناك مجال ثالث للاختيار، حتى لو اختار أن لا يختار فهو في حقيقة أمره قد اختار. لذلك من يدعي الحرية في غير منهج الله فقد كذب لأن عملية الاختيار قدرية. حتى دعاة الليبرالية الذين انتفضوا على كل ما اعتبروه قيوداً وعلى رأسها الدين وظنوا أنهم تحرروا من كل الأغلال، هم في الحقيقة عبيد الحرية وأسراها. وخطؤهم الكبير في ذلك أنهم اعتبروها قيمة مطلقة اشتقت منها كل القيم وهي ليست كذلك، فهم قد وقعوا عقداً مع الحرية واعتبروها السلطة العليا ومصدر التشريع وأعطوها تفويضاً كاملاً للتصرف في عقولهم وهم اليوم يحصدون نتائج هذا المعتقد الخاطئ ويدفعون ثمناً باهظاً لأجل ذلك وخاصة على الصعيد الأخلاقي والإنساني والأمثلة أكثر من أن تحصى. لذلك من يختار الإسلامفقد أبرم عقداً مع الله وفوض رب العالمين للتصرف في إرادته من خلال الالتزام بتعاليم منهجه وهو بذلك قد اختار أن يعيش حراً، فلا حرية بلا إسلام ولا إسلام بلا عدالة. وتأمل هذه الآيات المعجزات، ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.. البقرة).



والحرية في الإسلام ليست فلسفة (أفعل ما بدا لك) فهي مسؤولية وتكاليف قبل أن تكون حقوقاً. فالفرد في الإسلام هو جزء من المجتمع الذي يعيش فيه له حقوق وعليه واجبات يجب عليه أن يؤديها؛ فالغني مستأمن في مال الله الذي عنده وللفقير حق في هذا المال، والمال في النهاية هو مال الله ، والأقارب لهم حق الزيارة و المواساة وحق الإنفاق إن كانوا فقراء ، وللجار حق كاد أن يصل إلي الميراث، وللوالدين حق الطاعة والإنفاق والإيواء...إلي آخر هذه المسائل التي ليس للفرد المسلم الخيار فيها بل هي واجبات تعاقد مع الله عليها مقابل سعادته في الدنيا والآخرة. وبهذا المعنى تصبح الحرية قيمة مقيدة بإتباع تعاليم المنهج الرباني الذي يسعى حثيثاً إلي تحرير الذات من كل أعداء الحرية من خلال مجاهدة النفس وتزكيتها من علائق الأهواء حتى تعود للإنسان فطرته الأولي ويرى الحق كما أراده الله؛ قال صلى الله عليه وسلم:(لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).

يقودناالسياق للحديث عن خصوم الحرية وأعداء العدل عن تلك الفئة في المجتمع الإنساني، التي تريد أن تفرض وصاية على العقل بمنطق الإكراه (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، وتكبح جماحالفكر بلجام الجهل تحت مسمى الدين و إيديولوجيات المذهب السياسي والمعتقد الفكري ومصوغات العرف والعادة والتقليد . تلك الفئة التي عجزت أن تفهم رسالة الله إليها ورهنت إرادتها لمصالحها وأهوائها واختارت أن تتخطى حاجز الحقيقة تحت جنح الظلام، فأبت إلا العبودية والقيد، متناسية أن الله سبحانه لم يفرض هذه الوصاية على عقول الخلق ولو شاء لفعل( لَايُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.....الأنبياء) ، ولم يشأ سبحانه أن يكبل إراداتهم بل خلقهم أحراراً ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )، أفيصعب علينا نحن أن نتعايش بهذا المفهوم؟؟؟.

لكنه منطق الظلم ونهج الاستبداد الذي نشأ في واقع الجهل وصنع عقلية العبيد، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ......النحل)

. صدق ربي العظيم. أكثرهم لا يعلمون أن الحضارات لا يصنعها العبيد، فلا يلوي عنق التاريخ إلا أحرار الرجال، إذ كيف يمكن لمن حجب عن حقيقة ذاته خلف أسوار إرادته الحبيسة أن يكون مبدعاً ؟. كيف يمكن لمن أضاع إنسانيته وفقد آدميته تحت تراكمات الجهل والظلم والتخلف أن يحق حقاً أو يبطل باطلاً.لا يصنع الحياة أشباه الناس وأنصاف البشر وأسرى الأهواء، ولن يجد الحلول من رهن عقله لإرادة غيره واتبع هواه، لن يقام العدل وتكون نهضة حتى تعود للإنسان فطرته ويدرك حقيقة ذاته وجوهر إنسانيته، ولن يكون ذلك حتى يخرج مارد الإرادة الحبيس من أغلال القيد ويعود العقل يحلق في أجواء الفطرة حراً طليقاً كما خلقه الله. ولن يحدث ذلك إلا في أجواء من الحرية والعدل، ولن يتحقق العدل والحرية إلا في ظل الإسلام فلا حرية بلا إسلام ولا إسلام بلا عدالة.

لكن عدالة الإسلام غابت مع قيمه الأصيلة ومعانيه العظيمة تحت ركام هائل من الجهل والتخلف، واخْتزل الإسلام الرحب في مفاهيم وتصورات ضيقة يعوزها الوعي وتفتقر إلي الأخلاقوحوصر في لباس ومظهر وتحول إلي مجرد شعائروطقوس لا روح فيها، وانتهى إلي زاوية ضيقة لاتسع أفراد الحي الواحد فضلاً عن البشرية جمعاء (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ......الأنبياء) وعاد الإسلام غريباً كما بدأ.

إن غياب قيم الإسلام ومعانيه الأصيلة عن الساحة الإنسانية عامةً والإسلامية خاصةً يجسده اليوم واقع مرير ويرسم أبرز معالمه طغيان سياسي وظلم اجتماعي وفوضى أخلاقية، وشلل وإرباك في شتى مناحي الحياة. لن تستفيق هذه الأمة من غفلتها وتستعيد دورها الحضاري في قيادة البشرية حتى تعود للإسلام في معانيه الأصيلة ويفهم الناس أن الإسلام قيم وأخلاق ومعانٍ إنسانية قبل أن يكون شعائر وعبادات وخلافات مذهبية، وقد قال رسول الإسلام: (إنأقربكممني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً). لكننا لا نجد من دعاة الإسلام اليوم إلا في ما ندر من يذكر بقيم الإسلام الغائبة بنفس الحماس والعمق الذي يدعو به في قضايا قد تأتي متأخرة جداً في سلم الأولويات، بالرغم من أن قيمةً مثل العدل والحرية هي من أوجب واجبات هذا الدين وأبرز مقاصده، بل إنها على رأس هرم القيم في النظام الإسلامي قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.....الحديد). وعلى دعاة الإصلاح اليوم ألا يستنزفوا جهودهم في البحث عن حلول في الشرق والغرب وينشغلوا بالفروع عن الأصول وبالواجب عن الفرض. فبالعدل والحرية تنهض الأمم وتبنى الحضارات.

عصام مساعد – سويسرا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.