د.محمد بن نصر، المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية وضعت الأحداث التي تشهدها البلاد والتي انطلقت من مدينة سيدي بوزيد ثم اتسعت لتشمل أغلب مدن الجمهورية وقراها أصحاب القرار السياسي وكذلك النخبة المفكرة والمثقفة من حولهم أمام وضع غير مسبوق، حيث أصابتهم حالة من الإرتباك الشديد حاولوا جاهدين تغطيتها ببعض العبارات والمواقف التي توحي بالتماسك وضبط النفس. بغض النظر عمّا ستفضي إليه هذه الأحداث فإنه سيكون من الصعب بعد اليوم إعادة تشغيل الاسطوانة القديمة واجترار الحديث عن التنمية الشاملة والمتوازنة. لقد أرسل المجتمع جملة من المؤشرات كان من المفروض أن تُفهم مآلاتها قبل أن تتحول إلى ظاهرة يصعب التحكم فيها. عندما نقرأ على صفحات الجرائد أو على شبكة النات أخبار الشباب الذي يُقدم على مغامرة العبور إلى الشمال في رحلة عبر البحر وفي المحيطات وهو يعلم مسبقا أن إمكانات نجاحها تكاد تكون معدومة ثم ندير الصفحة أو نتحول إلى موقع آخر دون أن نطرح السؤال عن الأسباب الحقيقية التي تدفع بالإنسان إلى المغامرة بالحياة من أجل الحياة فنحن نكون بذلك قد مهدنا الطريق لليأس وعمقنا أسباب الهوان. جاءت بعد ذلك الأحداث التي عرفتها منطقة الحوض المنجمي لتقدم مؤشرا أوضح تعبيرا ولكنه لم يقنع صانعي القرار بضرورة إعادة النظر قي الخيارات المنتهجة وأصروا على اعتبارها أزمة عابرة ولم تستمع السلطة لتحذيرات قلة من العقلاء رأت فيها تطورا نوعيا في المشكلات الاجتماعية المتراكمة ودعت إلى ضرورة التعامل معها بجدية ومسؤولية وعدم اللجوء إلى الحلول الأمنية والقضائية، لأن هذا النوع من الحلول قد أثبتت التجربة أنّها في النهاية عبارة عن مسكنّات فضلا على كونها مؤقتة في أثرها فإنّها مؤلمة في طبيعتها وستسهم أكثر في تعقيد الأوضاع الاجتماعية. ثم عرفت البلاد حالات الإقدام على الاحتراق المتكررة، عكست حالة من الاحتقان المتنامي و بيّنت أن الأفق قد انسدّ تماما أمام فئة عريضة من المهمّشين وأنّه ليس هناك من سبيل لإثارة الرأي العام واختراق سياسة الإهمال والتعتيم إلا تعذيب النفس_ التي تعبت من الإذلال والامتهان _ أمام الملأ وفي الساحات العامة وأمام أنظار أصحاب النفوذ، من يدري لعل ضمائرهم تستيقظ؟. بغض النظر عن موقفنا الرافض لهذا النوع من الحلول اليائسة من الناحية المبدئية فإنّه من الواجب علينا أن نفهم ماذا يعني أن يقدم إنسان يملك كل مداركه العقلية على حرق نفسه؟ دعونا في الأول نرسم ملامح هذه الحالة. شاب كابد الصعوبات و نجح في كل مراحل التعليم بالرغم من ضغط الحاجة وضعف الإمكانات وتخرّج من الجامعة و هو يأمل أن يجد موقعه في المجتمع الذي " لا مكان فيه للظلم" وبعد أن طرق كل الأبواب التي ظلت موصدة في وجهه، وجد نفسه يجوب شوارع بلدته، خاوي الجيب محطّم النفس، تلاحقه الأسئلة متعاقبة ولا يدري كيف يجيب. هل وجدت عملا؟ متى الزواج إن شاء الله؟ ما فائدة الشهادات التي تحملها ؟ ويسأله أهله الطيبون: لماذا لا تعمل في الفلاحة، مهنة آباءك وأجدادك ؟ هم لا يدرون أنّه لم يعد يفقه شيئا من الفلاحة وأنه لا يتقن أيا من المهن والحرف اليدوية وأن قلبه قد تعلّق بوظيفة مكتبية لم يؤهله التعليم الذي تلقاه لغيرها خاصة وأن القيم الاجتماعية تنظر إلى العمل انطلاقا من جملة من المعايير تجعل في أسفل السلم المهن الحرفية التي أصبحت مهينة. مثل هذه الأسئلة وغيرها أكثر تقرع آذانه صباحا مساء ومثل هذه الخواطر تمر عليه و قد أرّقه وأرهفه العجز، يتمنى أن يطول نومه حتى لا يصبح على هذه الفئة القليلة التي لا حظ لها من العلم ولا من الدراية ولكنها استطاعت بحكم انتسابها إلى أصحاب الشوكة تنعم بالخيرات التي لم يعرفها إلا من خلال جهاز التلفزيون الذي صار ملازما له في غربته بين أهله. هل من المعقول بعد ذلك أن نطلب منه أن يكون متفائلا وينتظر التنمية التي لم تأت. تلك هي عيّنة من شبابنا الذين أطلقوا عليهم " العاطلون من أصحاب الشهادات العليا". عجيب هذا الربط بين البطالة والشهادة العليا، إنّها مفارقة التنمية الشاملة في بلادنا، أيصبح التحصيل العلمي طريق النفق المسدود. لا شك أنّه يصعب على الذين لم يعرفوا هذه الحالة أن يتصوروا كم تصبح عند هؤلاء الدنيا مظلمة والعالم ضيقا. بل حتى الذين لهم حظ من العيش بفضل الارتهان في القروض البنكية ليس بوسعهم ذهنيا أن يستوعبوا هذه الحالة وحتى في حالة فهمها ليسوا بوسعهم عمليا أن يفعلوا شيئا فهم مقيدون "بسلاسل من ذهب"، هذه القروض التي أثقلت كواهلهم وأخرست ألسنتهم وعمّقت فيهم الخوف، وكيف لا يخاف من اضطرته ظروف الحياة الصعبة إلى الارتماء مستسلما في شبكة البنوك التي لا ترحم؟. نحن هنا أمام ظاهرة معقدة هي في المحصلة نتاج لجملة من العوامل المتضافرة: خيارات تربوية وسياسات إنمائية تحتاج إلى مراجعات جذرية وتسيير إداري يغلب عليه الفساد و الأكثر من ذلك فئة من أصحاب اليد الطولى تريد أن تجمع من الثروة ما تقدر عليه قبل أن يتغيّر اتجاه الريح. كان إذا من المنتظر أن يفيض الكأس و يخرج الجياع ذوي الهمة العالية، الذين استطاعوا بوسائلهم الإعلامية البسيطة والفعّالة أن يُسقطوا مصداقية الإعلام الرسمي بالرغم من ضخامة الوسائل التي يملكها. ارتبك الذين تعودوا على الخيار الأمني وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون: كل ما نقوم به من بطش تلتقطه العدسة المخفية ليتم تداوله بعد لحظات في المواقع الإلكترونية ثم تأخذه الجزيرة فتنشره على اليابسة ليصبح بنزينا في الهشيم. فإن تركنا المتظاهرين يعبّرون عن المكبوت ويرفعون شعاراتهم المناقضة للصورة الإيجابية التي روجها الإعلام الرسمي افتضح المستور وإن منعناهم بالقوة من التعبير عن أوضاعهم فإنّنا سنثبت ما يدّعون. لقد أنهت هذه الأحداث سياسة الجمع بين المتناقضات، بين التنمية الشاملة والتهميش، بين الليبرالية والتحكم الأمني، بين التعددية وسياسة الحزب الواحد، بين احترام الدين وتشجيع قيم "الحداثة" المتحللة...لم يعد من الممكن الاستمرار في هذا النهج بشرط أن ينجح المحتجون في الاستمرار في التظاهر بشكل سلمي وعدم الوقوع في فخ استدراجهم للعنف ثم محاكمتهم بتهمة الارتباط بالأجنبي. من شأن هذه الأحداث أن تؤدي إلى عملية فرز داخل الصف النقابي، فرز بين المدافعين بالفعل غن قضايا العمال والبطالين وبين القيادة التنفيذية ومن سار على نهجها في موالاة السلطة. لقد كان من الممكن المحافظة على نوع من التوازن داخل الهياكل النقابية طيلة الفترة الماضية ولكن الآن وبعد أن تحطم حاجز الخوف فإن الجمع بين خيارين تتناقض فيهما الوجهة و الأهداف سيتعذر تحقيقه. أخرجت هذه الأحداث التي أعادت للشعب روح المبادرة النخبة من صمتها أو على الأقل لنقل جزءا منها وخاصة المنتمين منهم لقطاع المحاماة وهذا في حد ذاته أمر في غاية الأهمية لأن العزف على نغمة واحدة قد أسهم في تشويش الصورة حتى عند الحريصين بالفعل على مصلحة البلاد. سيكتب التاريخ بفخر ما أنجزه المهمّشون، لقد جعلوا كل من له ضمير حي يتوقف ولو لحظة ويتساءل: إلى متى سأظل صامتا أمام هذه المظالم التي تسببت فيها مجموعة لا تعرف إلا خدمة مصالحها الخاصة ولا يهمّها إن داست في طريقها نحو الإستثراء الفاحش على هذه الجموع الغفيرة من الناس، أليس حقا الساكت عن الحق شيطان أخرس؟ أن يعود المثقف والمفكر والعالم إلى هذه التساؤلات ويتوقف عندها ويعمل بمقتضى ما تستوجبه من مواقف فإن خطوة كبيرة قد تم انجازها في مسيرة التغيير الحقيقي الطويلة والضمان الوحيد لسلامة المجتمع هو تنمية قوى المناعة فيه وإخراجها من السلبية التي لازمتها لفترة طويلة. بذلك تكون الأحداث التي انطلقت من سيدي بوزيد قد أنجزت انتفاضة في الوعي سوف لن ينقطع معينها ولو تم إسكات الاحتجاجات بالقوة.