هنيئا لنا جميعا بهذا الشعب الذي كذب كل التكهنات و الأقاويل و حقق لبلده و للمنطقة بأسرها حلما في زمن بلغت فيه المؤامرات على هذه الأمة ذروتها ولم تعد تخفي فيه لا هويتها و لا أهدافها المعلنة في إخضاعها و التمكن من مقدراتها. و لذلك يترتب اليوم على كل تونسي غيور ألا يسمح بإجهاض هذه الملحمة الشعبية و أن يتعالى عن كل ما من شانه أن يؤثر في مسارها سلبا بقصد أو غير قصد. و هذا الواجب يترتب و يتعين في المقام الأول على المعارضة التونسية بكل أطيافها و اعني بها المعارضة السياسية و النقابية و الحقوقية. ذلك أن هذه الملحمة لن تؤتي ثمارها في الواقع اليومي للمواطن التونسي كرامة و أمنا و تنمية و عدالة اجتماعية ما لم تتجسد في مشروع مجتمعي متكامل يحفظ الحقوق و الأعراض و المقدرات ليتم استعمالها في وجهتها الصحيحة. و لا شك أن ما يتداول بشان المسار الغامض و ربما الاقصائي الذي تنحى إليه المشاورات الجارية لتشكيل حكومة وحدة وطنية لا يمكن أن يطمئن على نتائج المسار. فان المسار الذي يبدأ مبتورا لا يمكنه إلا أن يعيد شبح الماضي القريب البعيد و يؤول في النهاية إلى فشل الجميع في إرساء المسار السياسي المطلوب. و لن يكون في هذه الحالة رابحون و خاسرون. فالهزيمة ستطال الجميع و تجعلهم مسئولون لا قدر الله بالتبعية على إهدار الدم القاني و غير الملون سياسيا الذي سال في شوارع تونس من اجل سيادة الشعب و لا شيء غير سيادة الشعب. وهذه الهزيمة سيكون من وقعها أيضا أن تثلج الصدور التي ارتجت تحت وقع هذه الصدمة الحضارية و التي لا تريد أن تصدق، على غرار ما تطالعنا به الصحافة الفرنسية، بان الشعوب العربية المسلمة بإمكانها، دون دعم الغرب بل مع ثبوت تواطئه، أن تقود ثورات غير دموية من اجل الكرامة و الحرية و العدالة الاجتماعية الحقة. فبعد أن فاجأها أن يجرف الطوفان الشعبي الهادر كرسي الرئيس المخلوع، فان هذه الدوائر(في الداخل و الخارج) تخشى الآن أكثر أن يولد من رحم هذه الملحمة مشروع سياسي و مجتمعي جديد يصالح الشعب مع نفسه و مع نخبه في إطار ديمقراطية حقة ذات أبعاد سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية واعدة. إن هذه الدوائر تخشى أن تكون "ثورة الياسمين" علامة فارقة على تحول حضاري حاسم تأخذ فيه شعوب المنطقة العربية الإسلامية مصائرها بيدها و تنجح في مزاوجة الديمقراطية بالتنمية والعدالة بحرية المبادرة و العصرنة بالأصالة و الهوية. و دليلنا البديهي على ذلك هو هذا التنادي المحموم إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية عاجلة في عديد الدول العربية (خفض المواد التموينية الأساسية، تعطيل العمل بزيادات كانت مقررة في الضرائب و أسعار مواد أساسية أخرى إلى ما إلى ذلك من الإجراءات السياسية و الإعلامية المرافقة كالدعوة المضحكة من قبل مجلس الدفاع الأعلى لمصري الحكومة إلى تفادي التصريحات التي تستفز الشعب!!!). ولذلك كان هذا النداء لنتعالى على الخلافات و ربما أحقاد الماضي التي افرزها التصارع السياسي و الحزبي ضمن بيئة سياسية موتورة و غير ديمقراطية كانت تيسر للسلط الحاكمة بان تلعب على أوتار سياسة "فرق تسد". لا بد أن ندرك جميعا أن بإمكاننا أن نتغلب على هذه المؤثرات النفسية التي سرعان ما تلقينا في أتون الصراعات التي تنتمي لعقود خلت لا يعتبر شباب "ثورة الياسمين" معنيين بها. إن الشعارات التي رفعت اليوم في مدينة بنزرت (واجب حماية الثروة، بالروح بالدم نفديك يا وطن، يا شعب ثور ثور على بقايا الديكتاتور، محاكمة شعبية لوزارة الداخلية،) لا بد أن تلهم المعارضة التونسية في بحثها عن الصيغة الأمثل لإدارة المرحلة الانتقالية دون إقصاء و لا حسابات سياسية ضيقة ثم فيما بعد في تشكيل السياق الدستوري و القانوني للديمقراطية المنشودة. إن هذه الشعارات على عفويتها بإمكانها أن تؤطر المسار السياسي المأمول من خلال التأكيد على المعالم الكبرى الآتية: 1. إعلاء مبدأ الاحتكام الكامل إلى الإرادة الشعبية و تشريك الشعب تشريكا حقيقيا في المسارين السياسي و التنموي من خلال إبداع الإشكال المناسبة لذلك. 2. التوافق على مبدأ إعادة تشكيل المشهد السياسي دون التجمع الدستوري الحاكم إلى حد الآن و في اقل الحالات بعد فك ارتباطه بالدولة و مقدراتها و محاسبة قياداته المتورطة في إرساء و الدفاع عن النظام الدموي لبن علي. 3. تصفية المخلفات القضائية و الأمنية للمرحلة السابقة عبر عفو تشريعي عام. 4. التوافق على نظام سياسي جديد ذو صبغة برلمانية تسمح بنشوء أجيال جديدة لا تعرف الولاء الأعمى للقائد الأوحد و الملهم. 5. التوافق على ضمانات مرحلية دقيقة وواقعية، ضمن السقف السياسي المشار إليه أعلاه، تمنع إطالة أمد الاستثناء الذي يغذي آمال ميليشيات الحكم المخلوع في تعميم "الفوضى الخلاقة" على الطريقة الأمريكية. إن هذه الضوابط هي وحدها الكفيلة بالوفاء لدماء الشهداء وإعادة ثقة المواطن بالأحزاب السياسية على و وجه الخصوص.