الله أكبر سقط طاغية عصرنا، بعد أن أنّت "تونس الجميلة" تحت عسف ليله الطويل، وداست نعال زبانيته الوطنورقاب الأحرار، خطبه كان ثقيلا، ألجم كثيرا من الأفواه وأنطق أخرى مسبحة بحمده، وظن الظانون أن الأمر استتب له ولا سبيل لإزاحته وليس من مداراته بدّ أو من نفاقه مهرب. بصق كثيرون على ذواتهم ولعنوا ماضيهم ورفاقهم، وأنشدوا فيه "قصائد" المدح والثناء، وظنوا أن لا ملجأ منه إلا إليه، وكلما قام خطيب لإيقاظ الهمم وتحقير كيد المستبد، أُلبس قميص اضطهاد فاتك شائك، وأصابته سهام التطرف والإرهاب والخيانة والعمالة، لرد جماحه وكتم صداحه ونواحه!
قلة هم الذين لم ينصاعوا للواحي، ولم يبالوا بأن تراق دماؤهم أو تقام على شبابهم المنائح! أيقنوا أن عصر الظلمة لن يزول بالمداهنة والانحناء، فأصروا على الحب والولاء للحقّ، وبشروا من وراء الظلام بالصباح، وعولوا على أن القدر يستجيب لمن أراد الحياة، ويمنحه وشاحا من العزّ يراغم به الاستبداد والقهر!
و"فجأة" صعد اللهيب فوق الرماد، وحطم المستعبدون قيودهم ونهض المستضعفون وصمموا ولعلع الحق الغضوب ودمدم، وصاح الشعب وزمجر: "حكمت استنادا على شهادة طبية ترحل بإرادة شعبية"!
قال: "إنهم شرذمة قليلون وإنهم لنا غائظون"! ثم نشر الرعب وأجلب "بكلابه" وغازاته ورصاصه! فازدادت الصدور العارية اصرارا، زحفت وكرّت وهتفت "لا توريث لا تمديد كلنا سيدي بوزيد"!! ترنح الطاغية وقال "الآن فهمتكم! سأحقق كل مطالبكم في الحرية السياسية والإعلامية، سأوفر لكم العمل والكرامة! ... لن أمدد وسأغادر سنة 2014!
ترنّح لخطابه المترنحون والوصوليون وألقوا بحبالهم لمستبد يغرق في بحر استبداده من أجل إنقاذه والسباحة معه ومشاركته في لعبته القذرة، ولسان حالهم يقول: "أنال نصيبي قبل أن يناله غيري".
لكن الشعب المطحون التائق للحرية، قالها مدويّة دون خوف أو طمع: "لا، ولو فرشت الأرض ذهبا، اليوم ترحل وليس غدا"! وتبين للعالم أن الشعب كان مغمظ على قذى وأن أحلام البلاد الدفينة كانت تجمجم في أعماقها ثم تفجرت وهدرت كالبركان.
فر الطاغية كالجرذ الذي تلاحقه الصقور ولم تغن عنه "نموره السود" ولا حرسه ولا أمواله وما نهبْ! ويا سبحان مغير الأحوال، كنا قبل عشرين سنة نتسلل لواذا عبر الحدود ليس لنا من سلاح إلا الدعاء والقرآن وسورة "يس" وترديد :" وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم فأغشينام فهم لا يبصرون" وإذا بطائرته تحلق ولا تجد أرضا من أراضي أصدقائه الذين كان يخدمهم بضربنا وكبت شعبنا"! رُمي كالمنديل الورقي المتسخ لا ينفع معه غسل وليس في الاحتفاظ به فائدة! وأما أعوانه فهم يتسللون لواذا يحملون أدوات جرائمهم معهم وهم أشد خوفا!
عادت دعوات أم مكلومة بسجن أربعة من أبنائها وتشريدهم تطرق سمعي بعد عشرين عاما من سماعها، وهي تعد قفة السجين فجرا:" يخلي دارو ويتّم صغارو ويعشش الحمام في أوكارو"! ... وسبحان الذي يمهل ولا يهمل!
يا شباب تونس الثائر حققت كثيرا وجعلت من ثورتك قدوة وعبرة، ولكن الشعار المركزي الذي رفعته أجيال قبلك ودوّت به شوارع البلاد لم يتحقق بعد : "يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب". لابد من تفكيك حزب الإنتهازية و"القوّادة" ومن كان من عناصره له مبدأ أو فكرة أو رأي فليأسس حزبا غيره.
هذا الحزب هو الذي نصب بورقيبة رئيسا مدى الحياة، وهو الذي كان بالأمس يُكره الناس على مناشدة بن علي للاستمرار والانقلاب مجددا على الدستور، وهو الذي جعل شعاره المركزي: "مع بن علي نجحنا ومعه نواصل" وهو الذي يناشد من أجل أن يواصل بن علي إنجازه وبناءه ومشروعه الحضاري"!
وأما "رئيسنا" الحالي فقد كان زعيم المناشدين تحت قبة "البرلمان"، والقلال مجرمهم الأكبر....
إلى فلول التجمع: " ارحلوا"! إلى المعارضة التي تقاسمه "كعكا" ملطخا بالدم: "استحوا قبل أن تلقوا نفس المصير"! إلى شعب تونس: "لا تعبأ بيمين أو يسار، بإسلامي أو علماني لم يطالب بتفكيك بنية الفساد والإقصاء، ولم يكن همه الأساسي أن تكون تونس لكل أبنائها دون قيد أو إرهاب أو وصاية أو استخفاف بالإنسان".
سقط هبل، وأيسر من سقوطه صُغرى الأصنام التي إن تُركت بنت "هبلا" جديدا!
فالآن الآن وليس غدا!
العنوان مستعار من قصيد للصديق بحري العرفاوي ولا يخفى أن بالنص تضمينات من شعر الشابي