لأنً ثورة الشعب التونسي تتطوًّر بصور متلاحقة فانًّ إشارات ألقها ستزداد غنىًّ ومعنى. فمن بين أهم تلك الإشارات ما يتوجًّه إلى قوى المجتمع المدني، وعلى الأخص السياسية والنقابية منها. فالذي جعل الثورة قادرة على الصُّمود في وجه أعتى وأشرس ماكنة أمنية، يسندها ويتناغم معها حزب تاريخي منظًّم له تجارب هائلة في المناورات السياسية والحذلقات الإعلامية والتلاعب بعواطف الجماهير. 'ماكنة' لها شبكة علاقات حميمة مع أجهزة قمع عربية ودوائر مخابراتية دولية الذي جعل الثورة قادرة على الصمود هو التكوّن التدريجي لكتلة شعبية تاريخية متناغمة ومتفاهمة ضمًّت أحزاباً ونقابات واتحادات حقوقية وجمعيات مهنية وثقافية وجمهوراً غفيراً من المستقلًّين الملتزمين وخصوصاً من الجيل الشاب الجديد. الدًّرس هنا واضح ومباشر: إذا كانت قوى المجتمع المدني تريد أن تنجح في محاولات زحزحة الاستبداد الداخلي وكسر هيبة النظام البوليسي الظالم فانّ طريقها الوحيد المضمون هو في ابتعادها عن انتهازياتها النفعية الفردية وتناسي خلافاتها الإيديولوجية ووضع تلك الخلافات في ثلاًّجة التجميد المؤقًّت والسمو بنفسها إلى متطلبات اللحظة التاريخية التي تفرض هدفاً واحداً، يعلو على كل الأهداف، ألا وهو هدف إلحاق الهزيمة بماكنة النظام المستبد وتشتيت شمل القائمين عليها والمناصرين لممارسات أجهزتها القمعية والمخدوعين بكذبها. لن يوجد نظام سياسي في الدنيا، مهما كان تنظيمه ومهما كانت وحشيته ومهما كان الدًّعم الخارجي لرموزه، قادر على الصُّمود في وجه مجتمع مدني مصٍّمم على تناسي خلافاته، وذلك من أجل دحر ذلك النظام كأولوية قصوى تعلو فوق الاختلافات والصّراعات الهامشية التي توجد في كل مجتمع. وهذا ما فعلته ثورة شعب تونس. الإشارة الثانية هي تعلُّم المحركين لهذه الثورة العفويًّة من تجارب الماضي. لقد أدرك هؤلاء لعبة التلاعبات اللفظية المفرطة في الوعود التي يواجه، بها كل نظام فاسد أيَّ تحَّرك شعبي يطالب بالإصلاح والعدالة وذلك من أجل كسب الوقت وتجميع الصفوف تمهيداً للانقضاض على ذلك التحرك الشعبي. من هنا ذلك الإصرار للشارع الشعبي التونسي على أن تكون الحكومة الانتقالية غير خاضعة لحزب النظام السابق حتى لا تستعمل فترة الإنتقال تلك لتصبح فترة تجميع وتنظيم لقوى الحزب وأزلامه من أجل تمييع مطالب الثورة وحرفها عن أهدافها السياسية والاجتماعية الجذرية. ولقد عرفت البشرية ضمن مسيرة تاريخها الطويل بأن الانتفاضات الكبرى تخسر الرهان وتنتكس حال توقُّفها في منتصف الطريق وحال دخولها في لعبة المساومات الانتهازية. الإشارة الثالثة تمثًّلت في التطوير الشّبه يومي للمطالب ولأساليب العمل. ولذلك رأينا أنه كلما استجاب النظام السابق لبعض المطالب الجماهيرية رفع الشارع المناضل سقف مطالبه. كان الهدف هو الكشف الدائم لضعف وخوف وتشوُّش أركان ذلك النظام السابق. الثورات الكبرى تُفرخ المطالب وترفع السًّقف مع كل خطوة ناجحة إلى الأمام. والظروف تنضج أكثر ويزداد نقاؤها كلما كان الشعب يحتكم لفطرية الإنسانية ويراقب ويقود النخبة السياسية المعارضة ولا يقبل العكس. الإشارة الرابعة هي التواجد الواضح القوي للرمز الوجداني الذي يسمو بالمشاعر ويلهب التوق الأزلي للحرية. بيت شعر للشاعر التونسي الثائر أبو القاسم الشابي (إذا الشعب يوماً أراد الحياة / فلا بدًّ أن يستجيب القدر) أصبح جزءاً رافعاً لإرادة الجماهير ومثًّل رمزاً عاطفياً لإجماع الناس في مسيرة واحدة. وأظهر ذلك أن الثورات الجادًّة ستحتاج دوماً إلى قول أو آية أو بيت شعر أو نشيد يترسًّخون في وجدان الأمة ليكونوا مصدر طاقة هائلة رمزية للثورات والإنتفاضات الشعبية. إذا نجحت ثورة تونس في تحقيق هدفها الأساسي، وهو اجتثاث نظام استبدادي فاسد بني، بمعونة من بعض مراكز الصًّقل والمكيجة في دول الغرب الاستعمارية، فانه سيكون قد قدًّم خدمة كبرى للتحولات السياسية القادمة في وطنه العربي الكبير. ولا قول أكثر تشويهاً وتزويراً فُّما نسمعه من البعض عبر محطات الفضائيات التلفزيونية ومًّما نقرأه على صفحات بعض الجرائد العربية، قولهم بأن ثورة تونس لها خصوصيتها التي لا تسمح للآخرين بالإقتداء بها. هل حقاً أن الاستبداد والظلم والإفقار والنًّهب وتحقير الكرامة الإنسانية تخضع لخصوصية المكان والزمان؟ تاريخ الإنسانية يجيب بألف كلاً. ثورة تونس صفحة معروضة لكل من يريد قراءتها ليجد فيها الكنوز والعبر.