كدت الأحداث الجارية في ربوع مصر ومنذ الخامس والعشرين من يناير وحتى هذه اللحظة التي أتجرأ فيها على الكتابة عن هذا الحدث الجلل, والذي يتجاوز كل قدرتنا على المتابعة والتحليل, كما يتجاوز كل قدرة للقيادات التقليدية من حاكمة ومعارضة في وضع تصورات واضحة ومقنعة للمرحلة المستقبلية لمصر وللعالم العربي , وما تشهده ساحاتها من معركة للتحرر الشعبي من قبضة الأمن الخانقة لكل محاولة مهما تكن بريئة لتنسم عبير الحرية والديمقراطية والقدرة الخلاقة على التعبير التي تساهم في الإرتقاء بالوطن , أكدت هذه الأحداث أن ما سطرته تونس لم يكن أمرا عابرا , ولا ثورة محدودة بحدود الوطن التونسي , بل شكل نقلة نوعية في تاريخ أمتنا العربية. فعلى أهمية ثورة تونس , إلا أن لمصر بصمتها , ولمصر تميزها, فما تتمتع به مصر من موقع جغرافي حباها الله عزوجل إياه, ودور تاريخي مارسته ولالاف السنين , وشعب عظيم شكل رافعة لامال وطموحات العرب قاطبة , يراد وطوال أكثر من ثلاثة عقود تقزيمه , وتشويهه , وتقديمه على أنه شعب خانع , ضعيف وذليل, وتصويره بأنه سهل الإنقياد , يقبل بالقليل , ويرضى بالمهانة , ولا يثور لكرامة , ولا ينتفض لعزة نفس , ولا يتحرك لقضايا أمته , ويقبل بأن يحمي الكيان الصهيوني , بل ويسهر على أمنه , ويقدم أرواح أبناءه على مذبح محرقته المزعومة, دون مراعاة لمصالحه هو , ولا لأمنه , ولا حتى احتياجاته الملحة, ناهيك عن أمنه القومي الذي عبثت به هذه الزمرة الفاقدة لكل حس وطني , وإنتماء قومي , وصدق ديني. فمصر التي سرقت وطوال هذه العقود من قبل مجموعة فاقدة لكل مؤهلات القيادة , قيادة قفزت للصدارة في ظل هزائم الأمة المتتالية , وفي ظل حالة غيبوبة الأمة بهزيمتها في الخامس من يونيو 67 , وسقوط القدس , بدأت تستفيق , وتأخذ بزمام المبادرة , وتتقدم الصفوف , لتعلن للعالم أجمع أنها ما تخلت يوم ولن تتخلى عن دورها القيادي , ولن تدع مكانها الذي ملأته وبكل جدارة في مراحل ما قبل الغيبوبة, ولن تتراجع مرة أخرى الى الصفوف المتأخرة. الثورة التي انطلقت على ثرى مصر, وانتشرت كالنار في الهشيم , في مدن وقرى ونجوع البر المصري , في بحري وقبلي, في الدلتا والصعيد والنوبة , في سيناء البطلة المروية بدماء الاف الشهداء من مصريين وعرب امتزجت في معارك الحرية التي لم تكتمل , وعلى امتداد القنال الذي شكل ولا زال درعها الواقي الذي حماها من التدنيس , وعلى أرض سيدي بوزيد مصر , السويس, التي قدمت شهداء وشهداء في معارك مصر المتتالية مع أعدائها , وتقدم في هذه الثورة كوكبة طاهرة جديدة على مذبح التحرر النهائي بإذن الله , وامتدت من شواطئ سيدي بشر والعجمي في الأسكندرية الى منابع نيل أسوان المهمشة والمنسية, وتبدت رائعة جلية وفي أروع صورها في ميدان التحرير,الذي أصبح بالفعل اسما على مسمى , محررا لإرادة الشعب بمسيراته المليونية, ترسم معالم مرحلة مضيئة , لها ولأمتها التى تثق بها ثائرة لا مستسلمة, وتقف خلفها منتفضة لا مستكينة, وتدعمها قوية في وجه أعدائها , محاربة للفساد , مقاتلة للمحتل , لا تقبل بالدنية , ولاترضى من الغنيمة بالإياب. شعب مصر الذي تجاوز ولفترات طويلة عن سفاهات هذا النظام الذي تعامل معه بكل ازدراء, فنهب ثروته, واعتقل أبناءه, وشرد شرفاءه , وقتل روحه, لم يقبل أن يتجاوز عن استغفاله والإستهتار بكرامته وبادميته, فحالة الإستهبال التي مارسها هذا النظام فاقت قدرة كل شريف على الإحتمال, فرغم أن التزوير سياسة للنظام منذ عقود , إلا أن ما حدث في إنتخابات مجلس الشعب الأخيرة, شكلت نهايته, لما احتوته من فجاجة , ولما تبعته من وقاحات ليس أقلها تعليق حسني مبارك في احتفاله بافتتاح أول جلسه لمجلس شعبه المزور حين قيل له بأنه قد تم تشكيل برلمان شعبي موازي من قبل سياسيين رافضين لهذا المجلس الفاقد للشرعية , فأجاب باستهتار واستهزاء, دعهم يتسلون, فإذا به يفاجأ بأن لعبهم شمل البلد من أقصاها الى أقصاها , وأن تسليتهم لا مكان لها إلا ميدان التحرير, فأسقط بيده , وبدأ يتراجع بعد فوات الأوان, ويترنح تحت صفعات المتسلين, الذين رموا بخليفته الموعود ودونما رجعة الى خارج مصر, ويبدو أنهم لن يعودوا قبل أن يلقوا به هو نفسه الى مزابل التاريخ. حين تضع مصر بصمتها , ترتبك حسابات الكبار, ترتعد فرائصهم, تختلط حساباتهم, فتناقض أمريكا موقف الصباح بتصريح مسائي مبهم لتتبعه بتعليق على التصريح يحتاج لبيان توضيحي للتعليق الشارح للتصريح الراد على الموقف الصباحي لليوم السابق حتى تستبين الموقف لليوم التالي دون دليل واضح للأسس التي تدعي دوما أنها نبراس الديمقراطية التي ترفعها شعارا تدوس كل مقومات الشعوب لتحقيقه في المناطق التي لاتتمتع فيها مصالحها بالحماية والضمان الكافي , أما في الدول التي تسبح بحمد أمريكا , فمهما تكن قمعية ولا ديمقراطية , فلا داعي لدعم الديمقراطية فيها , لأن مصالحها فيها متحققة دون ديمقراطيتها , بل والأرجح أن أي ديمقراطية صادقة في تلك الدول ستقطع يد أمريكا والغرب لأنها تتناقض ومصالح تلك الشعوب, فيستدعي ذلك اجتماعات متتالية لأوباما مع كل مساعديه ولمجلس أمنهم القومي , كما وتتوالى طلعات السيدة كلينتون , حتى يخرج علينا بلير الذي نذر نفسه حاميا مخلصا ومدافعا شرسا عن اسرائيل وأمنها ليرعب العالم من الديمقراطية العربية. حين تضع مصر بصمتها , تضرب إسرائيل أخماسا بأسداس, يتلعثم سياسيوها, فلا هم يستطيعون البوح بما يجول في خواطرهم , ولاباستطاعتهم الصمت والجلوس والتفرج , وهم المعنيون ,بل والمستهدفون مباشرة من أي تطور ديمقراطي عربي , رغم ما يصدعون به رؤوس العالم من أنهم الديمقراطية الوحيدة في بحر الديكتاتوريات العربية, فحين تأتي أي محاولة صادقة للتحول الديمقراطي السلمي ينتابهم الرعب ليقينهم أن هذا يعني الوقوف ضد أطماعهم , وقطع أياديهم العابثة في كل أنحاء الوطن العربي , وليقينهم كذلك أنهم يخسرون حليفا , ويفقدون نصيرا طالما شكل داعما لكل ممارساتهم الإجرامية , وانتهاكاتهم المتواصلة للقانون الدولي ولحقوق الإنسان , بل وتخسر مندوبا لها تكلفه بأقذر المهام حين تريد أن تنأى بنفسها عن البقاء وحيدة في هذا السقوط الأخلاقي , ليس أقلها محاصرة الأبرياء في غزة. حين تضع مصر بصمتها , تكشف عورة هؤلاء الذين تسلقوا على رقاب الشعوب , والذين عرتهم مصر بثورتها فتركتهم كالطاووس المغتر الذي يصر على الوقوف بغباء ولا يدرك أن عاصفة الجماهير جردته من كل ريشه , وتركته مكشوف العورة ,كما وصفه الكاتب الكبير حسنين هيكل , والذي أردف قائلا بأن مبارك أراد أن يستمتع بشيخوخته في شرم الشيخ تاركا لإبنه الدكان على أمل أن يحوله الى سوبرماركت, بهذه العقلية يتعامل هؤلاء الأغبياء مع شعوبهم , فكان لزاما على هذه الشعوب أن ترد وبلغة واضحة لا لبس فيها, وعلى خطى ثورة تونس وبصيغة تقريرية لتؤكد أن الشعب يريد إسقاط النظام. حين تضع مصر بصمتها , يرتفع سقف الطموح العربي ليلامس السحاب , وليعانق الطيور المحلقة في الفضاء, وينطلق الى عنان السماء , فيثق العربي بعروبته, ويتفاخر بها , وهو الذي كان وقبل فترة وجيزة يحاول جاهدا أن يداري عروبته , وكأنها عار عليه أن يجاهد وبكل ما أوتي من قوة للتبرؤ منه, وترتعد فرائص حكام الدويلات الأخرى, مراقبين مذهولين منتظرين مصيرهم الحتمي القادم , إن لم يبادروا هم بأنفسهم بالتخلي عن سلطاتهم التي نهبوا من خلالها بلدانهم ,وما استقالة حكومة الأردن إلا بداية, وهي بالتأكيد لا تلبي مطالب الشعب العربي الأصيل في الأردن, فهل يتعظوا , وهل لهم من العبرة نصيب. حين تضع مصر بصمتها, تستبشر الجماهير بمستقبل مشرق منير, لا زعامة ملهمة تعكر صفوه , ولا قيادة تدعي امتلاكها للتاريخ النضالي , لتفاجئ الجماهير بعمالتها للعدو وتامرها على الشعب وسرقتها لثروات الوطن, فلم تعد الجماهير وبعد ثورة الياسمين وثورة الملايين بحاجة لمن يوجهها وكأنها قاصرة ,فأخذت بزمام المبادرة لتعطي للجميع وللعالم درسا بأنه فعلا إذا أراد الشعب يوما الحياة فلا بد أن يستجيب القدر, وتضعنا على أعتاب مرحلة جديدة تؤكد أن ما كان قبل الرابع عشر من يناير وفرار الطاغية بن علي, لن تكون أبدا كلاحقها من الأيام. حين تضع مصر بصمتها تؤكد على أن تونس هي صاحبة براءة الإختراع لهذا الفعل الثوري المشرف والعظيم في عالمنا العربي, وتفتح الباب على مصراعيه لمن أراد أن ينال مثل هذا الشرف, وليتنافس اللاحقون فيمن سيكون السباق من العرب لتسطير اسم شعبه ووطنه وبأحرف من ذهب , على قائمة الشرف, قانمة العز, قائمة الكرامة. أبو حمزة مبارك باحث عربي في حقوق الإنسان