"عندنا الرخام مثلا، ليقدموا لنا الوسائل والتدعيم لاستغلاله وتصنيعه في جهتنا ذلك كاف لتنميتها " هكذا صرح أحد المواطنين من فئة الشباب، من مواطني مدينة تالة المجاهدة لقناة تونس. "أعطونا الماء، دعمونا، مكنونا من وسائل الري العصرية ووسائل استخراج الماء وحفر الآبار ، أعطونا الماء وسنعطيكم الغذاء" هكذا صرح أحد فلاحي الرقاب بسيدي بوزيد "أنا جائعة ، أنا جائعة(أعادتها أكثر من مرة)هل تعرفون ما معنى أنا جائعة، هل تعرفين ما معنى الجوع، الاحساس بالجوع (مخاطبة المذيعة)"هذه صيحة فزع واستغاثة من طرف امرأة في منطقة من مناطق الشمال الغربي للتلفزة التونسية . صرخات قد تظهر لنا للوهلة الأولى وبالنظر إليها بصورة تبسيطية على أنها مجرد مطالب فئوية، مطالب نسبة فقيرة داخل المجتمع وقد يقال أن هذا أمر طبيعي ويمكن أن نشهده داخل أي مجتمع... أو صيحات من طرف بسطاء لا يفهمون أبعاد القضية همهم فقط بطونهم وأكلهم وشربهم...وأن الوضع في تونس سياسي بامتياز . الحقيقة أراها أعمق من ذلك، فمن الخطأ عدم الأخذ بعين الاعتبار البعد المعيشي والتنموي والاقتصادي بصفة عامة للمشاكل التي عصفت بتونس لعقود حتى رأينا ما رأينا من انفجار داخل المجتمع، دفع به إلى الشارع للأخذ بزمام الأمور وإصراره على نيل حريته، كلفه ذلك ما كلفه...والدليل على ذلك أن أغلب الشهداء ينتمون الى عائلات معوزة وفقيرة، عائلات تؤمن بحقها في الخبز وحقها في الكرامة والحرية وانه لا خطوط تماس بين البعدين... يقال لنا أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، نعم هذا صحيح...فلا خبز بدون حرية وصيانة للكرامة، بالخبز فقط نصبح كالأنعام نأكل ونشرب...لكن في المقابل أقول ليس بالحرية فقط يحيا الانسان . ولو كان الامر كذلك لما رأينا احتجاجات في الدول الاروبية التي من المعلوم أن شعوبها تنعم بالحرية التامة في النشاط السياسي والنقابي وبها من قوى الضغط ما يؤمن حقوقها لأبعد الحدود لكننا نراها تثور على أوضاعها الاقتصادية (أحداث اليونان مثلا). في الحقيقة الانسان لا يثور عندما يجوع وخاصة حين تكون أسباب هذا الجوع أسبابا طبيعية خارجة عن نطاق المسئول وقدراته ويكون قد استوفى(المسئول) كل الوسائل والحلول لتوفير عيش كريم لشعبه، أما أن يصبح الجوع سببه الظلم والجور والنهب لحقوق الشعب، فهنا يتحول الجوع الى اهانة وقهر وتعد على الكرامة . قد يتحملها الإنسان لحدود معينة لكن عندما تدق ساعة الصفر فأنه لا رادع لهبته وغضبه من أجل استرداد حقه ولنا في حادثة البوعزيزي ورمزيتها خير شاهد ودليل على صحة هذا التوجه . فالبوعزيزي لم ينتفض في البداية وهو الجائع منذ سنين لكن عندما ديست كرامته من طرف عون بلدي على مستوى أول ثم في مرحلة لاحقة والي المنطقة الذي رفض شكواه ومقابلته، يومها طفح الكيل وتكشفت حقيقة المشهد ، مشهد تتجلى فيه بوضوح فكرة أن وراء الجوع ظالم أكل حق المواطن وتركه لتنهشه أنياب ومخالب الفقر والحرمان والخصاصة . خرج الشعب للشارع لينزع القناع عن مشهد ظل لسنين يتلون أمامه وبشتى المساحيق يخفي حقيقة مرة، حقيقة نظرة حكامنا لمواطنيهم ومفهوم الانسان عند من ساس البلاد لعقود وأنهم لا يفقهون مفهوم التنمية الشاملة التي ترى أن الانسان هدف ووسيلة . وأن عملية التنمية هي تنمية المجتمع بالمجتمع وللمجتمع، لكن ما كان سائدا في عهد مافية الدولية الزينية والطرابلسية هو تنمية العائلة الحاكمة بالمجتمع وللعائلة الحاكمة ... الجدلية بين الحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية، من المواضيع الدقيقة والتي يدور حولها جدل كبير، جدل حول أولوية الخبز عن الحريات السياسية أو العكس...في خضم ذلك يأتي مفهوم التنمية الشاملة أو التنمية البشرية المركبة التي تنظر للإنسان على أنه هدف في حد ذاته، تنمية تشمل كينونة الانسان والوفاء بحاجياته المختلفة بكل أبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية واتجاهاته السياسية والفكرية، بصورة أدق اشباع الحاجات الاساسية والتنمية الاجتماعية وتكوين رأس المال البشري واستثمار الموارد التي تولد الثروة والانتاج وتنمية القدرات البشرية عبر الهياكل والبنى والمؤسسات...التنمية هنا عملية مركبة ومتداخلة يصعب الفصل بين مكوناتها المتفاعلة عبر عملية ديناميكية ليس فيها تغليب جانب من جوانبها على غيره من الجوانب أو العناصر... عدم التوازن في تناول تلك الأبعاد وتركيز الجهود والاهتمام على إحداها دون غيرها من شأنه أن يحدث خللا داخل المجتمع ، يهدد استقراره وتوازنه وعطائه داخل المشهد التنموي بصفة عامة . وهذا ما بدا عليه المشهد السياسي في تونس اليوم تغليب الجانب السياسي على غيره أي الجانب التنموي الاقتصادي ، فقد أسرعت الحكومة فور تشكلها لطمأنة الشعب عبر حزمة من الوعود كلها ذات بعد سياسي، من وعود للاحزاب والتبشير بحرية الرأي والاعلام والعفو التشريعي...وذلك يعد مسارا طبيعيا بل ملحا وضروريا لما عاشه الشعب من كبت وتكميم للأفواه طيلة عقود عاش من خلالها المجتمع في رعب وقهر لا مثيل لهما... لكن المشهد له بعد آخر، فان كممت الأفواه، ففي المقابل جوّعت البطون ونهبت الخزائن بل أفرغت جيوب المواطنين، والمشاهد التي عرضتها تلفزة تونس وبعض تقارير الجزيرة أبرزت لنا حجم الكارثة وتفاقم والمأساة وعمقها، مما يجعلني أقول ولست وحدي في هذا التوجه أن القضية في تونس تنموية أكثر منها سياسية . وأن لم تعجل السلط وكل أطياف المجتمع المدني بأحزابه ونقاباته وهيئاته...للبحث عن حلول تنموية جوهرية تنبع بالفعل من واقع كل منطقة ودراسة متطلبات كل جهة فأن البلاد لن تشهد الاستقرار . لتدع الاحزاب والهيئات والاكادميين ومراكز البحث والنقابات كل مصالحها الضيقة جانبا وتهب للانخراط في عمل ميداني مسحي لدراسة واقع الجهات لتحديد متطلباتها الواقعية، الدراسات الميدانية هي ولوحدها القادرة على بلورة حلول وخطط جذرية، من أجل إصلاح جوهري يكون المستفيد منه بدرجة أولى هو المجتمع...فليس لك أن تقدم برنامجا تنمويا لجهة سيدي بوزيد مثلا دون دراسة الجهة دراسة علمية تحدد حاجيات المنطقة للتمكن من وضع خطة ملائمة تلبي حاجيات السكان، ثم البحث عن آليات التنفيذ لتلك البرامج . وهذا عمل ليس بالهين لذلك يجب أن تتكافل فيه كل الجهود وأن توضع جانبا كل الخلافات وتوضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار وأن يقف كل بقدر جهده على الثغرة التي من حوله، لان دماء الشهداء الذين أنجزوا لنا هذا التغيير الرائع والعظيم هي أمانة في رقابنا لنكمل المشوار الذي بدؤوه، فتلك مسؤولية وطنية وشرعية نحاسب عليها أمام الله وليكن شعارنا كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه "أشبعه ثم حاسبه " في أمان الله مفيدة عبدولي