سمعت كفيفا يتحدث في الاذاعة الوطنية عن نفسه فقال إنه عاطل عن العمل منذ سنوات طويلة وأنه يفطر على (نص خبزة) يغمسه في الماء ويتسحّر بالنصف الآخر مغموسا كذلك في الماء! هذا الكفيف لو أنت سألته عن رأيه في الأحزاب والسياسة والانتخابات وما إلى ذلك لقال لك أنه لا يكترث بكل ذلك.. وأنه لا يتابع ما يحدث في البلاد لأن جوعه يمنعه من أن يسمع.. وحالته النفسية المتوترة والحزينة لا تسمح له بهذا الترف الذي يظنّ بعض الزعماء والأبطال والنجوم الجدد أنه متاح ومباح لكل التونسيين.. إن هذا المواطن الكفيف مكتئب.. ومغتاظ.. وجائع.. وعريان.. ومحروم.. ومقهور.. ومهزوم.. فكيف لمواطن هذه حاله.. وهو على هذه الصورة البائسة أن يسمع ويفكر ويختار ويحلل؟ هذا مواطن محروم من أبسط الحقوق ولا يظفر بصحن «سخون» وشقالة مقرونة أو كسكسي فكيف له بالحقوق الأخرى؟.. ولكن الغريب أن هناك من يرى أن ما سيتحقق لنا في قادم الأيام يجب أن ينسينا في الكسكسي.. والمقرونة.. والحليب.. واللحم.. والخبز.. فلا نتحدث عنها.. ولا نشغل بالنا بها.. بل من العار أن نخوص فيها لأنه لدينا مواضيع أهمّ وأكبر وأعظم وأكثر أهمية.. غير أن هؤلاء الذين يتكلمون هذه اللغة عندما يعودون الى بيوتهم يتمتعون بإقامة خمس نجوم.. ويجدون ما طاب ولذّ فوق موائدهم.. ويأكلون ويشربون هنيئا مريئا.. ويعيشون عيشة فيها كلّ وسائل الرفاهية والراحة وراحة البال.. إنهم عندما يكونون في بيوتهم وسياراتهم وصالوناتهم ينسون ما كانوا يتحدثون به عن ضرورة الارتفاع فوق مستوى الكسكسي والمقرونة والاهتمام بقضايا الوطن.. هؤلاء لا يعرفون الجوع.. ولا يعرفون الخصاصة.. ولا يعرفون الحرمان.. ولا يعرفون الإحساس بالذلّ والقهر الذي يحسّ به الأب الذي يرى فلذات أكباده وأم أولاده يتضوّرون جوعا.. ولا يعرفون ما معنى العيش في غرفة مظلمة ضيّقة أكلها (الندا).. وتعشش فيها الجرابيع.. ولا يعرفون فظاعة الموقف الذي يقفه المرء والملاّك يدق عليه الباب.. والعطّار يلاحقه.. و«الستاغ» تهدده بقطع الكهرباء.. هؤلاء الذين يتحدثون عن (المواضيع الصعيبة).. و(الكلام الكبير).. وقضايا البلاد والعباد ينسون أن الجوع كافر.. وأن البطون الخاوية لا تسمع ولا تعي.. وأن الإنسان يعيش أساسا بالخبز.. نعم.. لا يعيش بالخبز وحده.. ولكن لا كرامة لإنسان يمزقه إحساس بأنه يعيش عيشة الكلاب.. وكثيرا ما يشعر بأن بعض الكلاب أفضل منه.. وتلقى معاملة أحسن منه.. ورعاية أرقى منه.. إن «البزناسة» الجدد يريدون إيهامنا بأنه لا مانع من الاضرابات.. والاعتصامات.. وغلق المعامل والمصانع.. والاحتجاجات.. وتعطيل العمل والانتاج بدعوى أن لدينا مشاريع سياسية كبيرة ستنتقل بالبلاد الانتقال الديمقراطي الذي لطالما حلمنا به.. هؤلاء «البزناسة» ليسوا عاطلين عن العمل.. وليسوا من فئات «المزمرين» والحفاة العراة.. ولم يجوعوا يوما في حياتهم.. وأولادهم يدرسون في الخارج.. ولذلك فهم لا يرون مانعا في أن (تبرك البلاد).. لأنه كلما (بركت) أكثر كلما انتعشت تجارتهم..