حسين الرحيلي: حلول أزمة قابس ممكنة تقنياً لكن القرار سياسي    البرلمان يناقش اليوم ميزانية الداخلية والعدل والتربية والصناعة    وزير السياحة يؤكد أهمية التعاون بين تونس ومنظمة الأمم المتحدة للسياحة للنهوض بمستقبل السياحة    تأجيل محاكمة رئيس هلال الشابة توفيق المكشر    ما خلصّتش الكراء... شنوّة الإجراءات الى يعملها صاحب الدّار ضدك ؟    عاجل: غلق 3 مطاعم بالقيروان...والسبب صادم    تونس: 60% من نوايا الاستثمار ماشية للجهات الداخلية    واتساب يفاجئ المستخدمين بميزة تحميهم من الرسائل المزعجة!    الأهلي بطل للسوبر المصري للمرة ال16 في تاريخه    إنتر يتقدم نحو قمة البطولة الإيطالية بفوز واثق على لاتسيو    بطولة اسبايا : ثلاثية ليفاندوفسكي تقود برشلونة للفوز 4-2 على سيلتا فيغو    الرصد الجوي يدعو البحّارة للحذر خلال الساعات القادمة    عاجل: عودة الأمطار تدريجياً نحو تونس والجزائر بعد هذا التاريخ    علاش فضل شاكر غايب في مهرجانات تونس الصيفية؟    لن تتوقعها: مفاجأة عن مسكنات الصداع..!    أضواء الشوارع وعلاقتها بالاكتئاب الشتوي: دراسة تكشف الرابط    دواء كثيرون يستخدمونه لتحسين النوم.. فهل يرتبط تناوله لفترات طويلة بزيادة خطر فشل القلب؟    أفضل 10 طرق طبيعية لتجاوز خمول فصل الخريف    أمطار صبحية متفرقة لكن.. الطقس في استقرار الأيام الجاية    الاحتلال يواصل شن غارات على خان يونس ورفح وغزة    محمد صبحي يتعرض لوعكة صحية مفاجئة ويُنقل للمستشفى    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    بطولة فرنسا: باريس سان جرمان يتغلب على ليون وينفرد بالصدارة    هبوط اضطراري لتسع طائرات بهذا المطار..#خبر_عاجل    زيلينسكي: لا نخاف أميركا.. وهذا ما جرى خلال لقائي مع ترامب    عاجل/ فاجعة تهز هذه المعتمدية..    رواج لافت للمسلسلات المنتجة بالذكاء الاصطناعي في الصين    الشرع أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض    مجلس الشيوخ الأمريكي يصوت لصالح إنهاء الإغلاق الحكومي    عاجل: الإفريقي يهاجم المنظومة التحكيمية: الVAR أصبح غرفة مظلمة تتحكم في النتائج    السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    أمطار متفرقة ليل الأحد    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    عاجل/ حريق في حافلة تقلّ أحباء النادي الإفريقي..وهذه التفاصيل..    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    الشرع يصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية في زيارة رسمية    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أفكار عن الغربة
نشر في الحوار نت يوم 29 - 10 - 2009


بسم الله الرحمن الرحيم
أفكار عن الغربة

( الرحلة إلى المشرق 1 )
كنا نتجاذب الحديث حول ما طرأ على طبعنا من تغيرات بفعل الغربة ، ما كنا نتوقعها و لا خططنا لها . فليس في الغربة فقط حنين و اشتياق و أوجاع الفراق و اغتيال للأحلام و الآمال ، ففيها ثراء في المعارف ، و تقويم للسلوك ، و غنى في التجارب الحياتية ، و امتداد في العلاقات و نضج في التفكير .
كان لرقة المشرق مذاق لم نطعمه ، و دفء العلاقة فيه روح لم نلامسها ، و عزة انتماء فيه لم نستشعرها و حب للوطن يكبر ليطغى على كل حب . نشأنا و ترعرعنا في محيط كلمة "الحب" فيه معيب للرجولة ، و تعتبر من شظايا المسلسات المصرية .
كان وقع ألفاظ المدونة اللغوية المشرقية اجتماعيا ، سحر يهز الكيان . في الخصام لا ترى أيادي ملتحمة ، و لا أصوات بالألفاظ النابية تعلو . فالحياة قصيرة لا مجال فيها للخصومة ، و التنافس مشروع ، و سحر الكلمات باب النجاح .
كان الغسيل الأول في المشرق . تعلمنا فيه معنى الوطنية . و لا أخفي أنني عرفت فيه عن تاريخ بلدي و أعلامه ، ما عجزت مادة "التربية الوطنية" لسنين عديدة عن ترسيخه . كنت أتجول في المكتبات بحثا عن أي شئ يوصلني بموطني ، تعرفت على مؤلفات شيخ الأزهر العلامة محمد الخضر حسين و من ورائه تراث نفطة من أجداده العلماء ، أيضا لم أترك كتاب للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور أو ابنه محمد الفاضل رحمهما الله بصرته عيني إلا و اقتنيته ، و لا كتاب في تاريخ عادات و تقاليد و أشعار البدو في بلدي إلا و كنت أستنشق من خلاله عبيق النخيل الشامخ في علوه و كانت مؤلفات محمد المرزوقي زادي في ذلك . مجلة الآداب و الناقد و الآداب العالمية كان لي بها رفقة طيلة تلك المرحلة و فعلت فعلها في اعادة تهذيب ذوقي الأدبي و الفني و لكنها لم تمنعن من السباحة في مجلة السعادة العظمى و الهداية الاسلامية ، مجلة الفكر ، مجلة الهداية و الملحق الثقافي لجريدة الحرية إلى أرشيف الطريق الجديد و صدى الصحراء ، و تعلمت منها كم هي غنية الذاكرة الوطنية و كم هم عظام أعلام وطني . أصارحكم القول بأن أول وصال حقيقي بيني و بين الأدب التونسي بمختلف مدارسه التي لم نجبر على دراستها في المعهد الثانوي ، في المشرق. كان زادنا مؤلفات محمد صادق الرافعي ، و المنفلوطي و العقاد ، و نجيب الكيلاني . و لكن قد كان لشعر الشابي و الشيخ محمد الخضر حسين و نورالدين صمود و رياض المرزوقي و منور صمادح و الصادق شرف و بحري العرفاوي و أولاد حمد و جمال الصليعي طعم خاص بين أشعار مظفر النواب و نزار قباني و الشاعر اليمني عبدالله البردوني . أما في الفكر فكان التواصل مع المفكرين المشارقة أيسر من أمثال علي حرب ، علي زيعور ، رضوان السيد ، سامي أدهم ، يوسف وهبة ، طيب تزيني ، يوسف العظم و غيرهم ، الحوار بين التيارات الفكرية قائم ، و اسلوب المناظرات بين المشايخ و المفكرين سائد، و الاحترام متبادل . أما المساجد فهي محاضن للتربية و العلم و المعرفة . فمن مواعظ الشيخ كفتارو و شرح الحكم العطائية في دروس العلامة البوطي إلى تفسير قصار السور للشيخ النابلسي و اضاءات الشيخ حسون و اجتهادات العلامة الزحيلي .. فعلماء المشرق و الشام منهم بالخصوص بيوتهم مفتوحة لطلبة العلم ، يأخذون بالناشئة ليشذبوا ما علق فيهم من سمع و اطلاع سريع . و يمنحوهم من الخبرة ما يوسع مداركهم و يرشدوهم إلى الجمع بين العلم و السماحة و احترام الآخر و حب الوطن و هموم الأمة . إن الانتقال بين المساجد بحرية و اغتراف العلوم من السلسة الذهبية لعلماء الشام و لبنان و التجوال بين دور النشر في دمشق و بيروت من متع الحياة التي نشكر عليها صاحب الفضل سبحانه و تعالى . فاالانتقال من محاضرة إلى أخرى و من معرض إلى آخر و من ديوان إلى غيره أنستنا آلام الغربة و أوجاعها . كانوا يعيشون في وهم الرصد و الترصد ، و كنا نرتع في روضات الثقافة و العلم . كانوا يستمتعون بكل نجاح وهمي في التضييق ، و كنا نستمتع بكل أفق عقلي و روحي يفتح أمامنا . كان زادهم التمترس وراء سلطان القوة و كنا نرمي حملنا بمصافحة الكتب و دوريات الثقافة و العلم و البحث في ذاكرة الوطن المشوهة و ننافح عنه .
أما فيما يتعلق بالسياسة ، فقد كانت بيروت مميزة و ذلمك من خلال الصحافة الحرة ، التعددية الحزبية ، الانتخابات الحرة ، المداولات البرلمانية المفتوحة ، التحالفات السياسية العجيبة ، المناظرات السياسية ، و الخطاب السياسي المنفتح . و أبلغ درس تعلمناه أن للسياسة رجالها . و أن السياسة لا تشترط الشهادات العليا و لا التخصصات الدقيقة و هي ليست هواية . فالعائلات السياسية هي المحضن الأساسي للدفع بأفرادها إلى الركح السياسي . و للإرث العائلي السياسي أهميته ، فالتجربة و الحنكة و حسن تقدير المواقف و ملكة التوقع و حسن قراءة التوازنات ، كلها من المهارات المهمة في الممارسة السياسية التي يرثها جيل بعد جيل . و يُكمّل ذلك "العصبية " التي تقف ورائها المجموعات السياسية . عدا ذلك تتحول السياسة إلى سلوك استبدادي أو ابتذال و انتحار و هزائم متتالية .
لقد كانت الرحلة إلى المشرق مع استحضار "خوذ البسيسة " لبلقاسم اليعقوبي
و " يا ولدي " لفتحي آدم و " عندي سبع سنسن تعدوا " لمحمد الطويل ، بأصوات البحث الموسيقي و الشيخ إمام و بلقاسم بوقنة ، طرب يفوق أسمى السمفونيات العالمية و يفوق طرب العرب بأم كلثوم و عبد الحليم و عبدالوهاب و فريد الأطرش ..
و لقد كانت أناشيد أبوراتب و أبو الجود و أبو دجانة و الأهازيج الفلسطينية و السورية و اللبنانية تشحذ هممنا و تقوي من عزائمنا و تحررتنا من قيود الغربة و أقغالها .
لن و لم نرض الدنية في ديننا ، لن و لم نتآمر على وطننا ، لن و لم نمس بأمنه ، لن و لم ننس هموم أمتنا ، و لم يتسرب الحقد إلى قلوبنا . فالوطن للجميع . و عقولنا و أرواحنا تتطلع إلى أن نضيف و نساهم في انجازات الوطن و هو واجب ديني و وطني ، كما أنه حق من حقوقنا الوطنية التي لا تنازل عنها .
كنت أحبر هذه الورقات ، إذ بصوت يشدني و طال ما أطرب جيلنا . هو صوت صلاح مصباح ب " يا أم السواعد السمر" , و عندما بلغ بصوته الشجي إلى :
حق الوفاء و الصبر و الود و العِشره
لا يوم عنا تهوني يا زينة البلدان
انهمرت دموعي دون استئذان . و أردفها لطفي بوشناق :
العيون إلي ما تشوفكش يا خسارة كل إلي ماتوا
و القلب إلا ما يجبكش قولي آش يعمل بحياتو
و تدافعت أشعار الوطنية في ذهني ، و وجدت نفسي أردد دون وعي الأبيات اليتيمة التي لا زالت محفورة في الذاكرة بعد عشريتين من الغربة من قصائد أولاد حمد :
أحب البلاد ،كما لا يحب البلاد أحد
صباحا ، مساء
قبل الصباح ، و بعد المساء و يوم الأحد
لو قتّلونا كما قتّلونا
لو شردونا كما شردونا
لعدنا غزاة إلى هذا البلد .
لقد كانت الرحلة إلى المشرق ، غنية بانفتاحنا على الأدب بعد أن صد الصراع الايديولوجي بننا و بينه ، و على الآخر ابن عمي و أخي و صديقي و ابن بلدي بعد أن أعمانا الصراع الحزبي ، و على المدارس الفكرية التي هي ثروة للعقل الانساني بعد أن حال بيننا و بينها الكِبر الفكري ، و على التجارب الأخرى بعد أن حيل بيننا و بينها الحجر و التضييق الأمني ، و على الأوطان بعد أن تحررنا من طهورية القطرية و القومية الضيقة لنسبح في آفاق الأقاليم و الأمم .
و أهم من ذلك كله عرفت كم هوكبير و راسخ فينا حب الوطن و تحمّل ضريبة هذا الحب ، و إن بلغت حد الحرمان من استنشاق هوائه ، و ملامسة ترابه ، و الارتواء من مائه ...فالمعركة هي في حب الوطن و الوفاء له . و في التعبير عنه أساليب ، وسائل متعددة . و ليسمح لكل واحد منا أن يعبر عن حبه و وفائه كما يرى ، و لا خوف من التعدد في التعبير عن الحب و الوفاء لأن من يحب لا يتصور منه إلا ما ينمي و يطور محبوبه و يقوي سلامته و استقراره .
فخلوا بيننا و بين ما نحب !
ابراهيم بلكيلاني ( النرويج )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.