( الرحلة إلى المشرق 1 ) كنا نتجاذب الحديث حول ما طرأ على طبعنا من تغيرات بفعل الغربة ، ما كنا نتوقعها و لا خططنا لها . فليس في الغربة فقط حنين و اشتياق و أوجاع الفراق و اغتيال للأحلام و الآمال ، ففيها ثراء في المعارف ، و تقويم للسلوك ، و غنى في التجارب الحياتية ، و امتداد في العلاقات و نضج في التفكير . كان لرقة المشرق مذاق لم نطعمه ، و دفء العلاقة فيه روح لم نلامسها ، و عزة انتماء فيه لم نستشعرها و حب للوطن يكبر ليطغى على كل حب . نشأنا و ترعرعنا في محيط كلمة "الحب" فيه معيب للرجولة ، و تعتبر من شظايا المسلسات المصرية . كان وقع ألفاظ المدونة اللغوية المشرقية اجتماعيا ، سحر يهز الكيان . في الخصام لا ترى أيادي ملتحمة ، و لا أصوات بالألفاظ النابية تعلو . فالحياة قصيرة لا مجال فيها للخصومة ، و التنافس مشروع ، و سحر الكلمات باب النجاح . كان الغسيل الأول في المشرق . تعلمنا فيه معنى الوطنية . و لا أخفي أنني عرفت فيه عن تاريخ بلدي و أعلامه ، ما عجزت مادة "التربية الوطنية" لسنين عديدة عن ترسيخه . كنت أتجول في المكتبات بحثا عن أي شئ يوصلني بموطني ، تعرفت على مؤلفات شيخ الأزهر العلامة محمد الخضر حسين و من ورائه تراث نفطة من أجداده العلماء ، أيضا لم أترك كتاب للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور أو ابنه محمد الفاضل رحمهما الله بصرته عيني إلا و اقتنيته ، و لا كتاب في تاريخ عادات و تقاليد و أشعار البدو في بلدي إلا و كنت أستنشق من خلاله عبيق النخيل الشامخ في علوه و كانت مؤلفات محمد المرزوقي زادي في ذلك . مجلة الآداب و الناقد و الآداب العالمية كان لي بها رفقة طيلة تلك المرحلة و فعلت فعلها في اعادة تهذيب ذوقي الأدبي و الفني و لكنها لم تمنعن من السباحة في مجلة السعادة العظمى و الهداية الاسلامية ، مجلة الفكر ، مجلة الهداية و الملحق الثقافي لجريدة الحرية إلى أرشيف الطريق الجديد و صدى الصحراء ، و تعلمت منها كم هي غنية الذاكرة الوطنية و كم هم عظام أعلام وطني . أصارحكم القول بأن أول وصال حقيقي بيني و بين الأدب التونسي بمختلف مدارسه التي لم نجبر على دراستها في المعهد الثانوي ، في المشرق. كان زادنا مؤلفات محمد صادق الرافعي ، و المنفلوطي و العقاد ، و نجيب الكيلاني . و لكن قد كان لشعر الشابي و الشيخ محمد الخضر حسين و نورالدين صمود و رياض المرزوقي و منور صمادح و الصادق شرف و بحري العرفاوي و أولاد حمد و جمال الصليعي طعم خاص بين أشعار مظفر النواب و نزار قباني و الشاعر اليمني عبدالله البردوني . أما في الفكر فكان التواصل مع المفكرين المشارقة أيسر من أمثال علي حرب ، علي زيعور ، رضوان السيد ، سامي أدهم ، يوسف وهبة ، طيب تزيني ، يوسف العظم و غيرهم ، الحوار بين التيارات الفكرية قائم ، و اسلوب المناظرات بين المشايخ و المفكرين سائد، و الاحترام متبادل . أما المساجد فهي محاضن للتربية و العلم و المعرفة . فمن مواعظ الشيخ كفتارو و شرح الحكم العطائية في دروس العلامة البوطي إلى تفسير قصار السور للشيخ النابلسي و اضاءات الشيخ حسون و اجتهادات العلامة الزحيلي .. فعلماء المشرق و الشام منهم بالخصوص بيوتهم مفتوحة لطلبة العلم ، يأخذون بالناشئة ليشذبوا ما علق فيهم من سمع و اطلاع سريع . و يمنحوهم من الخبرة ما يوسع مداركهم و يرشدوهم إلى الجمع بين العلم و السماحة و احترام الآخر و حب الوطن و هموم الأمة . إن الانتقال بين المساجد بحرية و اغتراف العلوم من السلسة الذهبية لعلماء الشام و لبنان و التجوال بين دور النشر في دمشق و بيروت من متع الحياة التي نشكر عليها صاحب الفضل سبحانه و تعالى . فاالانتقال من محاضرة إلى أخرى و من معرض إلى آخر و من ديوان إلى غيره أنستنا آلام الغربة و أوجاعها . كانوا يعيشون في وهم الرصد و الترصد ، و كنا نرتع في روضات الثقافة و العلم . كانوا يستمتعون بكل نجاح وهمي في التضييق ، و كنا نستمتع بكل أفق عقلي و روحي يفتح أمامنا . كان زادهم التمترس وراء سلطان القوة و كنا نرمي حملنا بمصافحة الكتب و دوريات الثقافة و العلم و البحث في ذاكرة الوطن المشوهة و ننافح عنه . أما فيما يتعلق بالسياسة ، فقد كانت بيروت مميزة و ذلمك من خلال الصحافة الحرة ، التعددية الحزبية ، الانتخابات الحرة ، المداولات البرلمانية المفتوحة ، التحالفات السياسية العجيبة ، المناظرات السياسية ، و الخطاب السياسي المنفتح . و أبلغ درس تعلمناه أن للسياسة رجالها . و أن السياسة لا تشترط الشهادات العليا و لا التخصصات الدقيقة و هي ليست هواية . فالعائلات السياسية هي المحضن الأساسي للدفع بأفرادها إلى الركح السياسي . و للإرث العائلي السياسي أهميته ، فالتجربة و الحنكة و حسن تقدير المواقف و ملكة التوقع و حسن قراءة التوازنات ، كلها من المهارات المهمة في الممارسة السياسية التي يرثها جيل بعد جيل . و يُكمّل ذلك "العصبية " التي تقف ورائها المجموعات السياسية . عدا ذلك تتحول السياسة إلى سلوك استبدادي أو ابتذال و انتحار و هزائم متتالية . لقد كانت الرحلة إلى المشرق مع استحضار "خوذ البسيسة " لبلقاسم اليعقوبي و " يا ولدي " لفتحي آدم و " عندي سبع سنسن تعدوا " لمحمد الطويل ، بأصوات البحث الموسيقي و الشيخ إمام و بلقاسم بوقنة ، طرب يفوق أسمى السمفونيات العالمية و يفوق طرب العرب بأم كلثوم و عبد الحليم و عبدالوهاب و فريد الأطرش .. و لقد كانت أناشيد أبوراتب و أبو الجود و أبو دجانة و الأهازيج الفلسطينية و السورية و اللبنانية تشحذ هممنا و تقوي من عزائمنا و تحررتنا من قيود الغربة و أقغالها . لن و لم نرض الدنية في ديننا ، لن و لم نتآمر على وطننا ، لن و لم نمس بأمنه ، لن و لم ننس هموم أمتنا ، و لم يتسرب الحقد إلى قلوبنا . فالوطن للجميع . و عقولنا و أرواحنا تتطلع إلى أن نضيف و نساهم في انجازات الوطن و هو واجب ديني و وطني ، كما أنه حق من حقوقنا الوطنية التي لا تنازل عنها . كنت أحبر هذه الورقات ، إذ بصوت يشدني و طال ما أطرب جيلنا . هو صوت صلاح مصباح ب " يا أم السواعد السمر" , و عندما بلغ بصوته الشجي إلى : حق الوفاء و الصبر و الود و العِشره لا يوم عنا تهوني يا زينة البلدان انهمرت دموعي دون استئذان . و أردفها لطفي بوشناق : العيون إلي ما تشوفكش يا خسارة كل إلي ماتوا و القلب إلا ما يجبكش قولي آش يعمل بحياتو و تدافعت أشعار الوطنية في ذهني ، و وجدت نفسي أردد دون وعي الأبيات اليتيمة التي لا زالت محفورة في الذاكرة بعد عشريتين من الغربة من قصائد أولاد حمد : أحب البلاد ،كما لا يحب البلاد أحد صباحا ، مساء قبل الصباح ، و بعد المساء و يوم الأحد لو قتّلونا كما قتّلونا لو شردونا كما شردونا لعدنا غزاة إلى هذا البلد . لقد كانت الرحلة إلى المشرق ، غنية بانفتاحنا على الأدب بعد أن صد الصراع الايديولوجي بننا و بينه ، و على الآخر ابن عمي و أخي و صديقي و ابن بلدي بعد أن أعمانا الصراع الحزبي ، و على المدارس الفكرية التي هي ثروة للعقل الانساني بعد أن حال بيننا و بينها الكِبر الفكري ، و على التجارب الأخرى بعد أن حيل بيننا و بينها الحجر و التضييق الأمني ، و على الأوطان بعد أن تحررنا من طهورية القطرية و القومية الضيقة لنسبح في آفاق الأقاليم و الأمم . و أهم من ذلك كله عرفت كم هوكبير و راسخ فينا حب الوطن و تحمّل ضريبة هذا الحب ، و إن بلغت حد الحرمان من استنشاق هوائه ، و ملامسة ترابه ، و الارتواء من مائه ...فالمعركة هي في حب الوطن و الوفاء له . و في التعبير عنه أساليب ، وسائل متعددة . و ليسمح لكل واحد منا أن يعبر عن حبه و وفائه كما يرى ، و لا خوف من التعدد في التعبير عن الحب و الوفاء لأن من يحب لا يتصور منه إلا ما ينمي و يطور محبوبه و يقوي سلامته و استقراره . فخلوا بيننا و بين ما نحب ! ابراهيم بلكيلاني ( النرويج )