تتالى الصيحات وتطلق الإستغاثات في وسائل الإعلام وفي الشبكة الإجتماعية والجلسات العامة والخاصة في البيوت والمقاهي من مخاطر سرقة الثورة، ودقت الطبول وشدت العزائم للتصدي لهؤولاء السراق الذين يريدون افتكاك الثورة من يد صانعيها. وإني في هذا المقال اطلق ناقوس الخطر والتحذير، وليس التحذير من خطر سرقة الثورة، بل احذر من خطر تسرب هذا المفهوم وسريانه في اعتقاد الثوار ووعيهم، كيف لا، وقد بدأ الثوار يقعون في هذا الشرك الخسيس وكأن الثورة اصبحت شيئا ماديا يُتملك وينتزع بمختلف الطرق، حتى بالسرقة. فالثورة شيء معنوي، حركة نفسية ملتهبة متأججة في النفس تنتج فعلا عمليا تحويليا متواصلا في المحيط بكل مكوناته، وتمس كل مستواياته المادية والفكرية والبشرية والقانونية وغيرها من ركائز البناء المجتمعي. كما ان الثورة هي ليست مكون بسيط بل هي شكل مركب، وبلغة البيولوجيا الحيوية هي كائن مركب من عدة خلاية وليس كائنا بدائيا من خلية واحدة، فالبنية التجسمية لهذا التشكل متكون من عناصر متجمعة كل عنصر يؤدي وظيفة ما. الثورة تمر بمراحل خلق، تبدأ بالشحن، فالإنضغاط، فالإنفجار، فالإنتفاض، فالإزاحة، فالبناء، فالإستقرار، فالتصدير. هذا هو ملخص الثورات على مر التاريخ، فالثورات ليست وليدة اللحظات بل هي وليدة تراكمات الأعوام والسنوات وتواصلها يتطلب سنين واعوام أيضا، لنصبح نتحدث عن ثورات، ومفاهيم جديدة في الحضارة الإنسانية. فالإنتفاضة هي لحظة الولادة، ومنها نؤرخ لبداية حياة هذا المولود، تماما كالإنسان، نبدأ نؤسس لفعل حياته من لحظة ولادته، ولكن هذه الولادة سبقتها مرحلة تلقيح وحمل واعتصار ومازالت تنظره مرحلة من البناء وتكوين الذات في الإنجاز الحياتي ليخضع في الأخير إلى سُنة الفناء التي تميز الحياة على هذه البسيطة. لقد مرت ثورة تونس بسنوات من الشحن حتى اتي يوم الإنفجار والولادة في الرابع عشر من جانفي، ولم يحصل في هذا اليوم إلا مرحلة واحدة من جملة المراحل التي تدخل في السلسلة البنيوية الثورية. وبعد هذا اليوم بدأت مرحلة التطهير وازاحة الأورام، ونحن اليوم مازلنا في هذه المرحلة وستطول قليلا وبدأنا بالتوازي في اعادة البناء وتجديد خلايا المجتمع الحياتي، وهذه اصعب المراحل وهي تحدد مستقبل الثورة نجاحا أو موتا أو فشلا، فليس من السهل استئصال الخلايا السراطانية والتعفنات الجرثومية في جسدنا المعتل، وهذه الأوبئة لها دفاعاتها الخاصة التي تعتمدها لحفظ بقائها، ومن جملة اسلحتها هذا السلاح البسيكولوجي المؤثر جدا في نفسية الشعوب، وذلك ببعثرة وتعديل موازنات الحركة النفسية في الناس، وتقوية جانب الخوف مع الإحباط، وتهميش المواطنة. وحتى نفهم هذه الوضعية فلابد ان نمر سريعا على سيكولوجية الشعوب والحكام، وتعادلية انظمة الحكم والسيطرة. فالأنظمة تكون مسيطرة دوما عندما يكون مستوى الخوف أعلى من مستوى الإحباط، ويعمل الحاكم على ضرب مقومات المواطنة وذلك باخراج سيكولوجية الفرد عن سيكولوجية الجماعة، فالإحباط هو دينمو الشحن والتخويف هو نابض التنفيس لتعديل الضعط، فان تغلب الإحباط على الخوف يحصل الإنفجار وتقوم الإنتفاضة وتندمج تلقائيا سيكولوجية الفرد في سيكولوجية الجماعة ويصبح الممنوع متاحا بل مرغوبا. هذا ما حصل بالضبط في الثورة التونسية، ربع قرن أو اكثر من الشحن، وربع قرن أو أكثر من التخويف، وربع قرن من ضرب مقومات المواطنة، حتى اختلت الموازنة في لحظة غفل فيها الحاكم فارتفعت فيها كمية الإحباط على كمية الخوف فحصل الإنفجار وانطلقت الإنتفاضة كالسيل مسعورا لا يوقفه احد، وطالب الشعب ما لا يُطلب، بل طلب الممنوع والمحذور، واندمجت سيكولوجيات الفرد في سيكولوجية الجماعة حتى رأينا امثلة اندهشنا لها خاصة في زمن الفوضى والعنف وكيف ان الناس تجمعوا وحموا بعضهم البعض، حتى المجرمون والخارجون على القانون رايناهم في انتظام والتزام غريب لم نره فيهم من قبل ورايناهم ينظفون الشوارع ويقومون باعمال ما كانوا ليقمون بها من قبل حتى لو اجرتهم عليها. ما بعد الإنتفاضة وقع انهيار النظام وبعثرته، ولكن لم تجتث سلطته، بقي النظام كقالب المغناطيس المحطم، تضل بقاياه تنتج حقولا مغناطسية. السلطة تستمد قوتها من المقومات المالية والشبكة العلائقية التي نسجها رموز النظام طوال فترة حكمهم، ومن مواقعهم التي مازالو يشغلوها في السلطة الإدارية. الثورة اليوم تهدد رموز الفساد في مصالحهم المادية حرياتهم، وتهدد بتجريدهم من ثرواتهم وإلحاق العقوبات الجزائية والجنائية عليهم، وهذا اضافة إلى التشهير والفضيحة بما يعني ان موتهم بالحياة قد حان. وهنا لا نعتقد ان بقيا النظام سيستسلمون لأمر الواقع ولحكم الثورة بكل سهولة، فهذا وهم، بل ستجابه الثورة والحركات الإصلاحية بمقاومة رهيبة يضرب فيها عرض الحائط بكل المثل والقيم العرفية، وهو ما حصل فعلا من تقتيل ونهب وبث فوضى وتصفية جسدية وغيرها من المشاكل التي نعانيها اليوم ونتخبط فيها. إن رموز بقايا النظام الساقط مازالوا يمتلكون بعض عناصر السلطة، ولكن سلطتهم لن تكون فعّالة إلا إذا تجمعت واتحدت وتقولبت وتنظمت، ولأن انتظامها قد سقط بفعل الثورة، فهم يسعون لإعادة تشكيله، ولكنه لا يتشكل والثورة قائمة، والنزعات الشعبية مازالت حرة منطلقة غير مكبلة، ولهذا لابد من وأد هذه الثورة من واقع المجتمع، وقبل وأدها في المجتمع لابد أن توأد في أنفس الناس، ولا يتأتى ذلك إلا إذا عادت المعادلة التي تحكم سيكولوجية الشعوب إلى سالف تعادليتها، وذلك باعادة الإحباط وتقوية الخوف وفصل سيكولوجية الفرد عن سيكولوجية الجماعة التي تشكلت وهي اكبر مشكلة تواجه عمالة النظام الساقط. إن الناظر في الأحداث الأخيرة وما احدثته من بلبلة يجدها تسير على هذا المنوال من التخطيط الخسيس لقتل الثورة في مرحلة طفولتها قبل ان تصبح يافعة شابة، حيث بدأ بث مفهوم سرقة الثورة واعطائها مفهوم مادي واخراجها من مفهومها المعنوي الفعلي، وبتر جزأ من اعضائها وجسمها لتبقى معاقة وذلك بحصرها فقط في مرحلة الإنتفاضة وتغييب ان هذه المرحلة من الإنتفاضة ليست إلا مرحلة من مراحل ثورة متكاملة لابد ان تتم نموها، وبهذا المفهوم تشل الحركة الثورية، ويؤسر الحلم الإصلاحي واليأس من معانقة ثمار الثورة ألا وهي الحرية والإنعتاق. وبادخال مصطلح السرقة يُقتل مفهوم الفعل وتصبح الثورة شيئا ماديا يؤسس لحركة انكماشية في محاول للحفظها من ان تُأخذ وتُغلّق عليها الأبواب وينشغل المدافع عن الثورة عن فعل البناء لتحول إلى فعل الحراسة الواهم، وبالتالي تنعدم الثقة في الآخر المشارك معه في مختلف المجالات، ولا يعلم هل هو معه أو عليه، وهنا تبدأ الصدامات ما بين صُنّاع الثورة وينشأ الإختلاف وتفرقة الصفوف، وترتفع نسب الخوف ومعه يولد الإحباط لأن الثورة اخذت منهم ويياس عندها المواطن ويتحسر، "فقد كان صرحا من خيالا فهوى".... بدخول الخوف من جراء قبول فكرة السرقة، ينتج تفتيق وتفريك لتلاحم السيكولوجيات الإجتماعية، وتعزل بالتالي سيكولوجية الفرد عن سيكلوجية الجماعة وتفصل بعد ان كانت منصهرة في بعضها، وذلك بتفضيل المصالح الشخصية عن المصالح الجماعية، وهذا ما يسمى بضرب مصطلح المواطنة ويصبح كل نفسي نفسي...، ويتكالب على اللحاق بمكسب ولو قليل من الثورة قبل ان تنتهي ولا يجني منها ربحا، وهذا المفهوم الضيق ينبع من الخوف والإحباط، وهذا ما شهدناه من اضرابات عن العمل والإستلاء على الممتلكات العمومية والشخصية والبناء الفوضوي والإنتصاب العشوائي وسلسلة المطالبات الخسيسة في الزيادة في الرواتب وتحسين الوضيعيات والطلبات الحينية الواجب توفيرها وغيرها من الأشياء التي تدل على التفرق ونقص حس المواطنة.... الحقيقة لقد نجح جزارو الثورة في هذا المسلك، وشنوا هجوما فتاكا رهيبا، وقاموا بتشتيت التركيز الجماهيري، وتبديد الفهم وتغييب الحقائق، وقاموا بالعديد من الإعتداءات على الثورة ومقوماتها في مختلف المجالات، وصنع السناريوهات الغريبة التي تجعلنا نشك في بعضنا البعض، ولا نستطيع ان نفرق بين "حاميها وحراميها" كما يقول المثل، والحكومة دعمت هذا التشتيت (ولا أعلم، هل كان هذا عن قصد أو عن غير قصد) وذلك بان تماشت مع هذه الطلبات وحادت عن ماهو مطلوب منها ونست انها حكومة مؤقتة وليس مطلوب منها ان تحل هذه الإشكاليات وقامت بوضع برامج طويلة ومتوسطة المدى وهي تُجاري هذا النسق، وهذا ما يريده جزارو هذ الثورة... لهذا اطلق هذا الإنذار وهذا التحذير لجماعة الثوار، ليُلغوا من اعتقادهم ان الثورة قد تسرق، فالثورة لا تسرق ابدا لأنها ليست شيئا ماديا، وهي فعل متواصل بتواصل ايمانهم بها وتواصل فعل البناء وعدم الإستسلام، على شباب الثورة ان يعلن للجميع، إلى كل الحالمين باجهاضها، ويقولون لهم إن الثورة نبض فيهم كالقلب يضخ اكسير الحياة لهذا الوطن المغتال، وليعلم الجميع ان الثورة هي من خلقهم وصنعهم، والخالق والصانع يستطيع ان يخلق ويعيد صنع خلقه وصناعته متى اراد، فكما خرج يوم 14 جانفي 2011 يستطيع ان يخرج في اي يوم من الأيام، فالأيام سواء عندهم، وكما ابتكر شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" وألهب به عزائم الناس يسطيع ان يبتكر شعارا اخر يقضي به على كل جزار يحلم بذبح هذه الثورة واستئصالها من النفوس. اني احيي شبابا وقفوا بالمرصاد لمن يريد ان يتلاعب بالثورة ويريد ان يحيط بها يحول سيلها واندفاعها إلى قنوات الصرف الصحي... إني احيي شبابا قالوا "ديقاج" حتى لمن خرج معهم إلى شارع يوم الإنتفاضة ولكنه انسلخ عن مطلب الكرامة رضي بالمطلب الذاتي الخسيس.... إني احي شبابا كانوا متيقظون وواعون بما ينسج حول الثورة من خيوط مكر ودهاء للإحاطة بها وحفر الأخاديد لتحويلها سيلها نحو قنوات الصرف الصحي فبنوا بأفكارهم دروعا يذودون بها عن القصف السيكولوجي الشامل التي تتعرض له ثورتهم.... مصطلح "ديقاج" اليوم اصبح مكنسة الثورة لكل العفن الذي يعتريها.... المفكر التونسي سفيان عبد الكافي - قطر