محمد البشير بوعلي جامعي تونسي إن التذكير بأهمية الالتفات إلى الذات بإعادة بناء الهيكل التنظيمي للحركة وإحكام روابطه، وبالعودة مجددا إلى دائرة العمل الدعوي في هذه المرحلة الاستثنائية لبلادنا عموما ولحركتنا خصوصا بعد قيام ثورة الشباب المجيدة... كل ذلك لا يعني البتة إهمال النشاط السياسي، فكل تونسي وطني اليوم يجب أن ينشغل بالشأن السياسي لبلادنا، لكي لا نتركه للمفسدين ليعيثوا فيه ويوظفوا مقدرات البلاد لمنافعهم الشخصية. ولكن السياسة مفهومها لا يقتصر على شغل المناصب ذات النفوذ فحسب، بل هي ميدان واسع للعمل والممارسة السياسية من داخل السلطة ومن خارجها. ذلك أن السلطة نفسها في الدولة الديمقراطية التي تضمن الحقوق والحريات.. لا تقتصر على السلطة التنفيذية (وهي الوزارات وما يتبعها من مؤسسات ذات نفوذ)، بل تتعداها إلى السلطتين التشريعية والقضائية، أما السلطة القضائية فهي ليست موضوعا للمنافسة باعتبارها راجعة إلى شريحة من المتخصصين ويجب أن تكون مستقلة تماما عن أي توجه سياسي. وأما السلطة التنفيذية؛ فمن الخطأ الفادح الإقدام على تحمل أعبائها الآن، لأن بلادنا برمتها لازالت متأثرة جدا برواسب إدارات الفساد السابقة، وإصلاح شؤونها يحتاج إلى وقت طويل لا يقل عن عشرية كاملة، (وهي نفسها تقريبًا الفترة الزمنية التي تحتاجها الحركة نفسها لإصلاح شأنها الداخلي وإحكامه)، وليس هناك طرف سياسي في بلادنا قادر لوحده على تحمل أعباء الإصلاح في هذه الظروف الصعبة، وكل من سيُقدم على اعتلاء دفة السلطة التنفيذية في بلادنا الآن، سيحكم على نفسه بالانتحار السياسي المؤكد في المستقبل. لأن مطالب الإصلاح أعظم من جميع الأحزاب والتنظيمات فرادى، وشعبنا متلهف للإصلاح السريع على جميع الواجهات. ومهما بذل الحزب الذي سيحكم البلاد (خصوصا إذا كان منفردا) من جهود، فإنه سيُحاسب على تقصيره أو بطئه أو في أحسن الأحوال سوء تقديره.. ولن تظهر للشعب المتلهف إلا مواطن فشله لأنه -فضلا عن لهفة الناس للإصلاح السريع- فإن كل شيء سيكون منكشفا، وكل مواطن في بلادنا سينصّب نفسَه رقيبا على ذلك الحزب الحاكم وتصرفاته وقراراته. ويكون بذلك قد فشل مسعاه في أهداف الشعب مهما حرص. وحركة النهضة اليوم في غنى عن ذلك، فلها ما يشغلها من مشاكلها الداخلية التي تحتاج بدورها إلى رعاية وترميم. كما أن السلطة التنفيذية هي الواجهة الأولى لسياسة الدولة، وقد رأينا القوى العظمى (وخصوصا أمريكا وفرنسا) لا تألو جهدا للتدخل في شؤون بلادنا بالعمل على التوجيه السياسي وانطلاقا من إقحام شخصيات معينة في هذه السلطة، باعتبارها السلطة الأكثر نفوذا خوفا على مصالحها، مع أن الحكومة القائمة الآن لا تعدو كونها سلطة مؤقتة. فكيف سيكون الحال بعد قيام حكومة رسمية ستحكم لخمس سنوات كاملة؟ فمع إنكارنا المطلق لتدخل هذه القوى الخارجية في شؤون بلادنا، فإنه ليس من الحكمة تجاهل أثر تلك القوى وما يمكنها أن تفعل في بلادنا لو أننا دخلنا ساحة السلطة التنفيذية وشكّلنا الحكومة القادمة أو حتى شاركنا فيها بمواقع متقدمة ولو لم تكن حساسة غير وزارات السيادة والوزارات الاستراتيجية. وفي المقابل على الحركة أن تعمل على الواجهات الأخرى: واجهة بناء المؤسسات الاجتماعية الأهلية، والإعلامية والصحافية، والاقتصادية (وخصوصا المالية)، والتعليمية، والثقافية... لأن هذه المؤسسات هي من ناحية لا تخرج عن مفهوم البناء الدعوي العام الذي يمثل حصنا للمجتمع وهويته، ومن ناحية أخرى فتلك المؤسسات هي عبارة عن مراكز للتدرب على العمل الاجتماعي، حيث يمكن تدريب المنتسبين وإصلاح أخطائهم حيثما أخطأوا دون أن يتحمل المجتمع ككل تبعات تلك الأخطاء. بخلاف تحمل المسؤوليات السياسية التنفيذية المهمة دون خبرة، فسيوقعنا في الفشل ويُظهر الهنات دون الاجتهادات، وسيصبح وصمة في وجه الحركة ككل، ولن يجدي وقتها التعلل بأن غياب التجربة والخبرة بسبب تهميش الدكتاتوريات السابقة لنا هو سبب فشلنا. فالشعب لا يتيح للفاشل فرصة ثانية، بل يبحث عن البديل الذي ينجح للمرة الأولى. ومن ضمن تلك الواجهات قطاع الصحافة والإعلام، وهو قطاع حساس وفعال للغاية، كان له الأثر القوي في إنجاح ثورة الشباب المجيدة، وسيبقى له أثره في المستقبل في ظل دولة العدالة والحريات. وهو كما يقولون "سلطة رابعة"، وبإمكانه أن يكون سلطة ثانية، لأنه أكثر فاعلية من السلطتين التشريعية والقضائية. فطالما كان هدفنا هو ترشيد مجتمعنا وإصلاحه وتحصينه، فليكنْ الإعلام والصحافة هي أداتنا في ذلك الترشيد والإصلاح لغاية حماية مكاسبه وصوْن هويته. بخلاف السلطة التشريعية (البرلمان في بلادنا)؛ فهي الساحة الوحيدة من ضمن ساحات السياسة النظامية السلطوية التي يجب أن نتمسك بها ولا نفرّط فيها بل ندخلها بكل ثقل: للاعتبارات التالية:
- أولا: أن البرلمان سلطة رقابية لا تنفيذية. - ثانيا: أن من يكون له تمثيل في هذه السلطة سيكون له أثر بقدر ذلك التمثيل في توجيه سياسة البلاد ولو بدون مشاركة في السلطة التنفيذية، (وذلك في ظل نظام ديمقراطي طبعًا)، أو على الأقل سيكون له اعتبار في عين الحكومة المتمخضة عن الانتخابات. - ثالثا: لأن مؤسسة البرلمان هي -فضلا عن كونها سلطة قائمة الذات- فهي منبر ضخم وله صدى فعّال وواسع يمكن توجيه رسائل قويّة منه -خلال مداولاته- إلى جميع شرائح المجتمع وقطاعاته ومؤسساته، لإثارة القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة. فسيكون لهذه المؤسسة شأن عظيم لو أحسن من سيجلسون فيها بعد الانتخابات توظيفها، حيث يمكن للحركة بوجودها في هذا المنبر المهم أن تفرض سياسة الشفافية بحيوية وصراحة أعضائها البرلمانيين، فتصبح قضايا البلاد المهمة مكشوفة للجميع لا مجال فيها لإخفاء الحقائق، وخصوصا مع ترك باب البرلمان مفتوحا للصحافة والإعلام لتنقل بدورها كل ما يدور فيه للقراء والمشاهدين. فإبمكان الحركة أن تجعل من البرلمان مؤسسة رقيّ للمجتمع في مجالات متعددة لم يعهدها التونسيون من قبل بسبب تهميش الدكتاتوريات السابقة لها. - رابعا: لأن هذه السلطة تعكس بصدق شعبية كل طرف سياسي في البلاد (باعتباره مرآة عاكسة موضوعية لا تخدع ومكسبا ذاتيا للتقييم الذاتي). وهنا يمكن إثارة تساؤل وجيه، مفاده: كيف يمكن خوض الانتخابات التشريعية، بما يحتمله ذلك من إمكانية (ولو فرضية) كسب تلك الانتخابات، دون الاشتراك في تشكيل الحكومة -وهي السلطة التنفيذية- التي ستتمخض عن تلك الانتخابات ذاتها؟ وهذا تساؤل مهمّ، وهو ينظر إلى صورة بلادنا في وضع ديمقراطي مثالي بعيد عن كل التأثيرات والضغوط والهواجس الداخلية والخارجية، ففي ظل هذا الوضع المثالي تكون المعادلة المنطقية: فوز بالانتخابات = تشكيل الحكومة. بخلاف الوضع في بلادنا فهو من الهشاشة بحيث لا يتحمل هذه المعادلة المنطقية اللاواقعية... لأن بلادنا صغيرة ولا تتوفر على عناصر المقاومة السياسية ولا الاقتصادية ولا العسكرية لتتحمل وطأة الضغط الداخلي والخارجي وخصوصا من القوى العظمي المتوجسة على مصالحها. بما يقتضي منا الحذر الشديد لإبقاء بلادنا في منأى عن تلك الأخطار التي تتهددها، فإذا كانت الجزائر بإمكاناتها البشرية والاقتصادية... الأعظم لم تتحمل تلك الضغوط، فعانت ما عانت من حرب ودمار إثر كسب الإسلاميين للانتخابات، فكيف سيكون حالنا نحن؟ فليكنْ من الواضح للجميع ابتداءً أن حركة النهضة لن تشكّل حكومةً ولن تشارك في وزارةٍ حتى في حال فوزها بأغلبية المقاعد البرلمانية. فليس من سبيل لتجنب ذلك المحذور إلا أن يبقى الإسلاميون بعيدين عن السلطة التنفيذية، فلا يُقدمون على تشكيل الحكومة القادمة ولا حتى مجرد المشاركة فيها. بل يكتفون بالتحالف مع بعض القوى الوطنية المناضلة غير الإسلامية والوجوه المستقلة المناضلة أيضا التي وقفت معنا في نفس خندق النضال خلال محنة العشريتين السابقتين ولم تتواطأ مع النظام السابق ضد شعبنا. لا لغاية الاستفادة من شعبيتها، أو التقوّي بها على المنافسين، بل لتقديمها للمناصب الحكومية وخصوصا منها السيادية والاستراتيجية بعد الانتخابات. فيكون ذلك بتنسيق مسبق واتفاق واضح على ما يمكن أن نسمّيه بعقد: المناصب السياسية مقابل ضمان الحريات والعدالة والهويّة.
ولكن هذا كله يجب أن يكون مسبوقًا بالعمل الإعلامي المكثف لتحقيق الأهداف التالية قبل حلول موعد الانتخابات:
1-العمل الإعلامي المكثف على طمأنة جميع الأطراف الداخلية والخارجية بأن الحركة لا تنوي مسك السلطة في البلاد، ولا بناء دولة إسلامية تطبق الأحكام الشرعية بالقوانين الرسمية، بل غاية مرادها ضمان حقوق المواطنة والحريات العامة والخاصة للجميع (بما فيها حقوق ممارسة الشعائر واللباس)، وصون الهوية العربية الإسلامية في البلاد التي هي أصلا مسلمة (وقد أبدت قيادة الحركة شيئا من ذلك ولكن بشكل شخصي غير مكثف ولا مؤسسي ). 2-المطالبة في جميع المنابر السياسية والإعلامية بتغيير النظام الرئاسي في بلادنا إلى نظام برلماني متعدد السلطات وتتحقق فيه بعض ضمانات الاستقرار والديمومة السياسية، كالتوافق على إنشاء محكمة دستورية عليا تعمل على حماية الدستور وفض الخلافات بين سائر السلطات الأخرى البرلمانية والتنفيذية (مجلس الوزراء برئاسة رئيس حكومة يمثل هرم السلطة) والرئاسية التي ستكون سلطة رمزية ترمز لوحدة البلاد. ولا تتدخل تلك المحكمة الدستورية العليا في سياسة البلاد إلا عند حدوث الأزمات الدستورية بين تلك السلطات أو عند إقدام إحداها على خرق الدستور، ويجب أن تتكوّن من بعض الحكماء من المناضلين المستقلين كمناضل الأجيال السيد علي بن سالم والمناضل المنصف المرزوقي والمناضلة العظيمة نزيهة رجيبة والمناضلة الصلبة سهام بن سدرين، فضلا عن بعض القانونيين المناضلين كأعضاء هيئة 18 أكتوبر، فمع أن عناصرها غير مستقلين فهم بالتأكيد من خيرة المناضلين الأشداء في بلادنا، يُضاف إليهم مناضلون آخرون مثل الأستاذ محمد النوري والأستاذ محمد عبو والمناضلة سعيدة العكرمي والمناضلة راضية النصراوي والأستاذ محمد نجيب الحسني والمناضل هيثم مناع... فإخلاص هؤلاء للمبادئ الديمقراطية ونضالهم الطويل خلال المحنة نحسب أنه كفيل بصون الدستور بما يعنيه من حماية الحريات وتحقيق العدالة التي ناضلوا من أجلها ولأجلها قامت الثورة. (مع استثناء من سيتم حصوله على مناصب سياسية في الحكومة القادمة من هؤلاء، فلا يمكن أن يكونوا في الموقعين معًا). 3-الاتفاق المسبق مع الأطراف التي سترشحها الحركة لبناء تحالفها القادم على إحداث تغييرات إدارية مهمة غايتها إعادة كل سلطة وكل إدارة ذات سلطة إلى حجمها الطبيعي، وخصوصا تحجيم سلطة وزارة الداخلية، لتقتصر على حماية الأمن الداخلي للمواطنين، بإخراج مؤسسات إدارات الإشراف الجهوية من سلطتها من ولاة ومعتمدين وبلديات لتلتحق بوزارة أخرى كوزارة الشؤون المدنية مثلا، وإلحاق مؤسسات السجون والإصلاح بوزارة العدل، وإحالة أعوان تنظيم المرور إلى وزارة المواصلات. ولا تبقى لوزارة الداخلية غير مؤسسات مقاومة الجريمة والأمن الداخلي وما له صلة بها.. وذلك لغرض منع تغوّل هذه الوزارة في المستقبل. وللحديث بقية..