قطب العربي حين علم المعتصمون في ميدان التحرير بنبأ تنحي الرئيس مبارك يوم 11 فبراير كان من بين الهتافات العفوية التي انطلقت سريعا" الله وحده أسقط النظام"، ورغم أن بعض اليساريين والعلمانيين أبدوا امتعاضا من الهتاف، وراحوا يهتفون هتافات أخرى، فقد كان ذالك الهتاف تعبيرا عن إيمان فطري للمصريين، جعلهم يوقنون أن الله فعلا هو من اسقط النظام وليس أي شيء آخر، إذ أن الثوار الذين بذلوا كل طاقاتهم اعتصاما وتظاهرا وهتافات لم يجدوا من سبب آخر يتعلقون به لتحقيق النصر النهائي إلا الله سبحانه وتعالى، وقد تجسد ذلك في لجوئهم إلى الدعاء والقنوت في الصلوات بصوت جهري، حتى إن بعض الهتافات كانت بمثابة أدعية جماعية أن يتدخل الله بقدرته لإزاحة الطاغية. نظرة متعمقة على أوضاع الثوار الذين اعتصموا خلال أيام الثورة وحتى الآن في ميدان التحرير تكشف عمق تدين المصريين واعتدالهم وتسامحهم، والحديث عن تدين الثورة المصرية لا يعني بالضرورة تمييزا لدور التيار الإسلامي فيها من إخوان وجماعات إسلامية أخرى، ولكنه يؤكد أن غالبية المشاركين في الثورة كانوا متدينين بالفطرة، كان واضحا أن خلفيات غالبيتهم الدينية تجمع بين مدارس الإخوان والسلفيين والدعاة الجدد، ظهر ذلك جليا في أدائهم الصلاة في جماعات كبرى تغطي مساحات واسعة من الميدان، ظهر ذلك في أخلاقهم الحميدة التي كانت محلا للنقد قبل الثورة، ظهر ذلك في روح التكافل الاجتماعي القوية بين المعتصمين الذين تقاسموا الغذاء والدواء والفراش والغطاء، والذين تنافسوا في الإيثار في صورة بدت أقرب إلى مجتمع المدينةالمنورة عقب الهجرة مباشرة. حين دخل الإسلام إلى مصر أضفى عليه المصريون صبغتهم الخاصة، التي مزجت بين الالتزام بنصوص القرآن والسنة، والعادات والأعراف المصرية النبيلة التي تمتد حتى العصر الفرعوني مرورا بالعصر المسيحي، والتي أضافت للتدين التقليدي شكلا فلكلوريا تظهر معالمه في الموالد والأعياد، وقد ظهرت هذه الحالة الفلكلورية المميزة للتدين المصري في ميدان التحرير حين كان المعتصمون في الأيام الأولى للثورة يؤذنون للصلوات بشكل جماعي وهو مشهد أظن أنه غير مسبوق في العالم وفي التاريخ، وكان الهدف هو إسماع الآذان لأكبر عدد ممكن قبل أن يتم تركيب ميكروفونات تغطي كل نواحي الميدان تنقل الآذان والصلوات إلى جانب خطب الثوار والأغاني الوطنية. "تديُن" الثورة المصرية هو الذي كشف الوجه المتسامح والأخوي للمصريين، ظهر ذلك في العديد من المظاهر الطبيعية غير المتكلفة مثل قيام بعض الشباب المسيحي بمساعدة المسلمين في الوضوء، ووقوفهم في سلاسل لحماية المصلين أثناء الصلاة، والوقوف على مداخل الميدان أثناء صلاة الجمعة، وقد بادلهم المسلمون حبا بحب حين اكتظوا بعشرات الآلاف للمشاركة في كل القداسات التي كانت تقام كل يوم جمعة قبل صلاة الجمعة، كنا نردد مع الأخوة المسيحيين ترانيمهم التي تحولت إلى جزء أصيل من الأغاني الوطنية التي كانت تبث عبر إذاعات الميدان ومنها ترنيمة " بارك بلادي يا سامع الصلاة من كل البشر". ولا يفوتني أن ألفت الانتباه إلى الروح السمحة لخطباء الجمعة والكهنة الذين قادوا القداسات، فقد تميزت الخطب الإسلامية والمواعظ المسيحية بإبراز النصوص الدينية الثورية الرافضة للظلم والطغيان والعدوان على حقوق الناس، والمنصفة للفقراء والمساكين والمقهورين، وكان مبهرا لنا نحن المسلمون أن نسمع نصوصا إنجيلية ثورية تدعو لمواجهة الظلم والفساد، وهي نصوص موجودة منذ القدم ولكن كهنة النظام أخفوها، وربما أرادوا حذفها أسوة بما فعله نظرائهم من وعاظ السلطان المسلمين الذين أخفوا الآيات القرآنية التي تحض على الثورة ضد الحاكم الظالم.. وكم كان مبهرا أيضا أن نرى المشايخ الأزهريين وأصحاب اللحى يقفون في هذه القداسات دون أي حساسية، بل إن الداعية الشهير صفوت حجازي كان شديد الحماس حسبما رايته وسمعته لإقامة القداس، كما كان مبهرا أيضا أن نرى حوارات عميقة حول هموم الوطن والثورة بين بعض الإسلاميين الملتحين وبعض الشباب والشابات المسيحيات دون أن يتطرق الحديث إلى الشأن الديني، جاء المشايخ الأزهريون بلباسهم الأزهري ضد إرادة شيخ الأزهر وبقية المؤسسة الدينية الرسمية، وجاء الشباب المسيحيون أيضا رغما عن قرار البابا بمنعهم من المشاركة، وهكذا توحدت إرادة المؤسستين الدينيتين الرسميتين ضد الثورة، فيما توحدت الإرادة الشعبية مع الثورة. حين نتحدث عن الروح الإيمانية للثورة فهذا لا يعني كما ذكرت من قبل اختزال الثورة في تيار إسلامي بعينه، وإن كان لهذا التيار مشاركة مقدرة، ولكن المقصد هو إظهار هذه الروح الإيمانية والأخلاقية باعتبارها من مكتسبات الثورة التي ينبغي تعزيزها والحفاظ عليها، بل والبناء عليها لوأد الفتن التي كادت تدمر الوطن من قبل، ولبناء مجتمع أكثر تمسكا بالقيم الدينية والأخلاق القويمة بعيدا عن التعصب أو التطرف.