هم الذين حرروا الوطن, بصدورهم العارية, وبطونهم الخاوية, وبرحلة القهر والألم والخصاصة التي عاشوا في ظلها سنوات الجمر.. لم يسمع صوتهم أحدا, ولم يلتفت لهم أحدا.. هؤلاء هم آلاف الفقراء الذين أنجبوا الشهداء.. شهداء الحرية والكرامة التي أعادوها للجميع, وبدون استثناء.. ولم يطالبوا بأي ثمن.. وأي ثمن يعوض الروح, وأي ثمن تستحقه الحرية؟ يسكنون مناطق الظل كما شاء النظام تسميتهم, ثم سرق منهم الشمس ليبقى الظلام واقعهم.. مساكنهم حيطان واقفة كالتاريخ.. لا ماء . لا كهرباء.. لا دورات مياه.. لا أغطية .. لا كراسي.. لا تلفازات... ولا.. ولا.. ولا.. حينما تدخل بيوتهم, قد تبكي من شدة الألم.. وقد يلسع ضميرك الذي اشترك في طمسهم وقهرهم بالصمت المبين, شئ من الألم.. أو أنك ستستغرب من كائنات غريبة تعيش في ظل المعجزة الاقتصادية التونسية. أبناءهم, تلامذة نجباء, يدرسون إلا في ضوء النهار, فليلهم أعتم ومر.. ولولا بعض الشموع لماتوا غبنا من ليل دامس.. تلامذة لا يملكون كتاب ولا كراس.. ولا قلم يسطرون به شئ من آلامهم.. ولولا معلمهم الذي نبت منهم في ضربة حظ.. انه يقتسم معهم معاشه ومعاش أبناءه.. وحينما يتخرجون بعد رحلة مضنية من الم طويل.. لا يجدون شيئا, فلا عمل بدون رشوة, ومن أين المال؟ لم يشتكوا لأحد, وقالوا إننا جياع, محرومون, يقتلنا برد الشتاء ويعصف بنا الملل من القادم المجهول, لا يصيحون إذا مرضوا, فلا مال لهم للتداوي ولا منحة تسند لهم وهم على أسرة الموت.. من فكر فيهم, سياسي؟ مثقف؟ حقوقي؟ ميسر ذا مال؟ لا أحد.. لا أحد.. كان النظام البائد يضرب لهم موعدا كل سنة, يوم التضامن الوطني, لجمع الأموال لصندوق 26-26, كان يفرض عليهم الدفع فرضا, يطرد أبناءهم من المدارس, يخطف من أمامهم ما يحاولن بيعه من خرد الدنيا ومن بقايا السلطان.. يحرمهم من أي شئ.. وبعد أن يسلب منهم قوت يومهم... تتسارع وسائل الأعلام لترتيب الولايات حسب السرقات التي قام بها النظام, ويمجدون هذه الولاية أو تلك, لأن حجم السرقات أكبر. عندما, بدأت الثورة, خرجت هذه الصدور والسواعد الفقيرة.. لا تلوى على شئ.. وهم يسقطون الواحد تلو الآخر... لأن الهدف كان كبيرا "نريد إسقاط النظام".. منذ اليوم الأول ولم يتغير هذه الشعار.. إلى أن حصلوا على مبتغاهم وسقط الدكتاتور... وبعد إن سقط الدكتاتور, نسى الجميع هؤلاء الشهداء الذين حرروا البلد.. نسوا الجرحى الذين سيبقون رهنا للقعود مدى الحياة.. لم يسأل عنهم أحد.. ولم يخفف ألم الأمهات الثكلى أحدا.. ماتوا من أجل الحرية والكرامة للكل.. ولكن الانتهازيون سيطروا على شئ.. وقوفا في الأعلام جميعه وبدون استثناء.. يبحثون عن شهرة, عن مكسب ما, عن مقعد في البرلمان أو الحكومة القادمة.. وهم لم يشاركوا بقطرة عرق واحدة في تحرير الوطن.. نسى الكل هؤلاء الأبطال, هؤلاء الفقراء الذين ظلوا وسيظلوا بفقرهم إلى الأبد.. وليس هم فقط فهناك المئات من قمعوا في عهد النظام البائد وشردوا وذبحوا.. من سأل عنهم من مد يد المساعدة إليهم.. من تحدث عنهم ولو تقديرا وإجلالا في التلفازات والصحف.. كانوا وقود الثورة فصبوا الماء على رمادهم.. ربما غدا, سيخرج علينا البعض لينادي بأعلى صوته "خبز وماء والشهداء لا"... فقد عودنا الأعلام بكل بدع الدنيا وانه لا يزال يرزخ تحت ممارسات النظام السابق و لا يستطيع التحرر منه.. ولا تزال أغلب الأصوات تبحث عن مكاسب, وأما السياسيون فإنهم يبحثون عن موطأ قدم... والحديث عن الشهداء قد يقصيهم جميعا لذلك تناسوهم زورا وبهتانا. الدكتور محجوب أحمد قاهري 05/03/2011