الدكتور محجوب احمد قاهري / يعتقد الكثير من المثقفين أبناء المناطق الحضرية خاصة بان العشائرية قد انتهت مثلما ادعى بورقيبة بعد بناءه للجمهورية, وهو على حد قوله قد وحد التونسيين إلى أمة واحدة, ولكن الأمر في واقعه يختلف اختلافا كبيرا عما يفكر فيه هؤلاء. فبعد إن حطت الثورة التونسية أوزارها, أصبح للقبيلة والعشيرة صوتا قويا وقد كان من قبل ممنوعا من التحدث علنا على أساس إن الصوت الوحيد هو للتجمع. ولبيان طبيعة العشائرية في المناطق الداخلية, سنأخذ كمثال محافظة القصرين, فهي محافظة تقع في الوسط الغربي للجمهورية, يقارب عدد سكانها 500 ألف ساكن, ومركزها مدينة القصرين التي تعد قرابة 150 ألف ساكن, والباقي منتشرون في معتمديات وقرى وهي مناطق ريفية بامتياز. وماعدا سكان مركز المحافظة الذين يعتبرون من الحضر, فان باقي السكان ينتشرون حسب العشائر, فمثلا إن تحدثت على منطقة العيون, فانك بالضرورة تتحدث عن أولاد غيلان, وان تحدثت على الشطر الشرقي لحاسي الفريد فانك تتحدث عن قبيلة الأفيال, وان تحدثت على خمودة فانك تتحدث على قبيلة أولاد موسى, والأمثلة كثيرة وواضحة لكل سكان هذه المحافظة. كما أن هذه المناطق يزداد عدد سكانها من خلال زواج أبناءهم وبناتهم من داخل العشيرة في حد ذاتها, ونادرا ما تجد من تزوج من خارج العشيرة, ونادرا ما تجد بان أحدا من عشيرة أخرى قد سكن في ظلال قبيلة أخرى, وان كان ذلك فلأن ظروف اجتماعية خاصة قد حتمت ذلك. كما تميز المشهد العشائري, بوجود ضريح لولي صالح لكل عشيرة, تقع زيارته كل سنة في مناسبة تسمى "الزردة" يحتفلون له ويذبحون له الأضحية, وصار الحديث عن "زردة" أولاد موسى و "زردة" الأفيال و زردة" القصارنية و"زردة "أولاد تليل بفريانة وهلم جرّ لكل عشيرة, وتقام بمحافظة القصرين 240 "زردة" سنويا. وقد حرص نظام بن علي على تشجيع هذه الظاهرة بإعطاء الدعم المادي والمعنوي لمسئولي هذه العشائر, بل وكان يحضر فيها مسئولي التجمع بمباركة من أهلها. ويعتبر مسئولي هذه القبائل من أصحاب الأموال الطائلة ومن منتسبي التجمع في مراكز دنيا ومراكز عليا كاللجنة المركزية ومجلس النواب. كما حرص التجمع في تأسيسه وتأكيده للفكر العشائري من خلال الانتخابات التي كان يجريها, في اللجنة المركزية أو في البرلمان, حيث انه يتم الاختيار من خلال عشائري, ومنذ وصول بن علي للحكم كانت العشائر الكبرى هي الممثلة في كل المؤسسات دون غيرها, وقبل الانتخابات يقع الطلب من هذه العشائر باختيار مرشحيها, وقد يحدث أن يقع الاختلاف بين مترشحين أو أكثر من عشيرة واحدة, وطبعا يقع الحسم في دوائر التجمع ومن خلال مواصفات معينة وهي الانتماء للتجمع وطبعا مقدار الرشوة التي بإمكان المترشح أن يدفعها. وقد كانت نفس الوجوه هي التي تتحكم في المناطق منذ وصول بن علي للحكم. و كان من نتائج هذا البقاء الأبدي في دائرة القرار والحكم بهذه الجهات من إنتاج طبقة معينة, تتميز بامتلاكها لقوة السلطة وكذلك لقوة المال, هذا المال الذي نتج عن تحكم في كل شئ, من الرشاوي, واختلاق مشاريع صغرى, كذلك من خلال العمل في التهريب من الدول المجاورة, وقد أصبح هؤلاء من أغنى أغنياء تونس حيث يمتلك البعض منهم المليارات, وطبعا هذه المليارات لا تصرف على الشعب وإنما اغلبها كانت من مص دمه. وطبعا هؤلاء لا يراقبون من طرف السلطة لأنهم هم السلطة. كما بسطوا نفوذهم على كل الفقراء والمساكين الذين هم في حاجة إلى لقمة العيش, وأتمروا بإمرتهم في قضاء مآربهم من خلال بعض الأعمال الخاصة والعامة. ولم يتم تأثيرهم على هؤلاء الفقراء قبل الثورة فقط, وإنما بعدها أيضا, ولعل المتتبع لأحداث الثورة سيتوصل بكل يسر إلى هذا الفعل النافذ والواقعي لمسئولي التجمع. في الثورة, وأيضا في محافظة القصرين ومثلها كل المحافظات الأخرى, من خرج للتظاهر ضد بن علي ومقاومته قواتها الأمنية القاتلة' أليسوا هم سكان المناطق الحضرية فقط, من مثل مدينة القصرين وتالة وفريانة, ولم يشهد أي تحرك مهما كان نوعه في المناطق الريفية, وهي كما قلنا مقسمة حسب العشيرة. وزد عل ذلك عندما ابتدأت الأحداث بسيدي بوزيد ثم القصرين, الم تخرج أصوات من محافظة قفصة لتقول بأنه لا يمكنها التضامن مع عشائر ماجر والفراشيش وهم سكان محافظتي القصرين وسيدي بوزيد لأنهم وبكل بساطة لم يناصروا سكان الحوض المنجمي من عشائر الهمامة في محنتهم سنة 2008 التي تعرضوا إليها من طرف نظام بن علي. ثم بماذا نفسر الأحداث الأخيرة بمنطقة المتلوي والتي انتهت إلى قتيلين وأكثر من ستين جريحا, أليست هي قتال عشائري مثلما رأينا واعترف أهلها أمام عدسات التلفزيون. ثم والسؤال الخطير, من يحرك هؤلاء ويدعوهم للفوضى وحرق البلد, مثلما صار في مناسبتين في محافظة القصرين فقط, وقد لاحظ سكان مدينة القصرين بان الكثير من سكان المناطق الريفية قد انخرطوا في جريمة الحرق هذه. إنهم أولئك التجمعيون النافذون الذين كانوا يحكمون هذه المناطق, وقد تعودوا بشراء ذمم الفقراء والمحتاجين بالمال, فهم يشترونهم أيضا كلما سنحت لهم الفرصة. ويبقى الخطر كامنا في مفاصل الواقع, لأن هؤلاء التجمعيون لا يزالون في أماكنهم ومعهم أموالهم وسلطتهم المعنوية على القبائل التي اكتسبوها منذ سنوات عديدة. الأمر يدعوا إلى التفكير بجدية, فالعشيرة لا تزال قائمة ولا تزال تحت وطأة أزلام النظام الراحل, وتبقى الوقاية من هذا الوضع بتدخل الدولة وإقامة مشاريع في هذه المناطق الفقيرة والمحرومة لتفويت الفرصة على أزلام بن علي من اللعب على جوع وفقر وحرمان هذه المناطق. 14/03/2011