منذ انطلاق الشرارة الأولى لما انتهى إلى ثورة للشعب التونسي في 17/12/ 2011 بمدينة سيدي بوزيد بالجنوب التونسي، بإضرام الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه بعد أن بغي عليه باعتداء عون تراتيب بلدية (امرأة ) عليه جسديا بصفعه من أجل الإنتصاب لبيع الغلال على عربة منقولة بما يعتبر مكان غير مسموح الإنتصاب الحر فيه، بعد ما كان قد أساء فيها الأدب على حد ما تسرب من معلومات بعد الحادثة ، والكل يطارد هذه الثورة ولا يريد لها إلا أن تكون يتيمة لا أصل لها ولا فصل، ولا رأس لها ولا أطراف، ليكون التنافس على اقتطاف ثمارها وعلى ركوبها على أشده، وتجييركل طرف نتائجها لنفسه أو لتقاسمها مع من يريد. - إرهاصات الثورة: لئن كان الحديث عن هذه الثورة والكتابة فيها والإحاطة بكل جوانبها سيكون موضوعا واسعا للباحثين، فإني سأكون مكتفيا في هذا المقال بالإشارة إلى بعض إرهاصاتها وأسبابها البعيدة والقريبة. أنا أستطيع القول أن هذه الثورة التونسية سوف لا تكون الأخيرة، ولا يجب من منظور الرجوع إلى الأصل والخروج من الإستثناء باتجاه تحقيق الحرية الكاملة والإستقلال الكامل أن تكون كذلك. فهي ثورة تحقيق النظام الديقراطي الذي لا بد منه في ظل ما انتهى إليه الشعب العربي المسلم في تونس من انقسام ليس طائفيا ولا عرقيا ولا أثنيا، فهو في هذا المستوى من أنقى شعوب أمة العرب والمسلمين عروبة وإسلاما، ولكنه ثقافيا وسياسيا بفعل الإختراق والغزو الثقافي الغربي للنخبة التونسية، وليلقي كل ذلك، بحكم الزمن وعلى امتداد أكثرمن 131 سنة، بظلاله على المجتمع في محاولة، سواء عن قصد أو عن غير قصد، لإحداث أكثر ما يمكن من الإنقسام فيه (إسلامي، ليبرالي، إشتراكي ، يسار ماركسي لينيني، قومي عربي، شيعي، بهائي، نصراني مسيحي، يهودي صهيوني ...) . فقد كان يمكن لمثل هذه الثورة أن تكون منذ وقت مبكر من التاريخ الإسلامي، سواء من خلال حركة عبد الله بن الزبير أو من خلال حركة الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين حتى ما قبل الغزو الغربي لبلادنا لإعادة الأمور إلى نصابها، بعد أن تم تحويل نظام الشورى الإسلامي إلى ملك عضوض، وكان يمكن أن يكون ذلك من خلال حركة الإصلاح العربية الإسلامية، التي كانت داعية إلى تصحيح الأمور والمسار على القواعد الصحيحة لنظام الشريعة الإسلامية، من خلال الحركة الإصلاحية التي قام بها خير الدين التونسي، أو تلك التي قام بها علي بن غذاهم، ولكن حركة الغزو الغربي لبلاد العرب والمسلمين حالت مرة أخرى دون حدوث ذلك، ليكون كل ذلك مختزلا في التاريخ ممثلا لأحد الإرهاصات البعيدة لهذه الثورة. أما الإرهاصات القريبة فقد بدأت منذ أن سرق الهالك الحبيب بورقيبة من الشعب التونسي ثورته على الإحتلال الفرنسي عندما التف على مطلب الشعب التونسي بالإستقلال التام الذي تمت الموافقة عليه في اجتماع ليلة القدر سنة 1944 واستبداله بالإستقلال الداخلي. ثم بعد توليه قيادة البلاد بعد ذلك على خطى المحتل في كل شيء. وبما أن هذا النظام كان استبداديا ولم يكن ديمقراطيا ولا إسلاميا، فقد كان ذلك من إرهاصات الثورة منذ ذلك الحين كذلك. وبما أن هذه الإرهاصات كانت قائمة، فقد كان لابد للشعب التونسي أن يواصل طريق البحث عن استعادة حقوقه الضائعة في الهوية والحرية والكرامة والإستقلال والوحدة، وبالإستمرار على ذلك، فقد كاد يوفق سنة 1987 في فرض النظام الديمقراطي المنشود، لولا أن سراق الثورات من الداخل والخارج كانوا له بالمرصاد لتجهض الثورة، وليحل محل ذلك الإستبداد، وليتواصل في ثوب آخر وبوجه آخر، كان الجنرال المجرم كبير الفاسدين بن علي هو المتصدر له وأعانه، على ذلك ما عدى الإسلاميين وبعض الأحرار من أبناء الشعب التونسي، باقي مكونات النخبة والمجتمع المدني على ذلك.
- نظام تحالف اليمين الدستوري واليسار الماركسي والقومي العربي، أو نظام العصابات السبع المنهار: لقد كان هذا النظام بكل مكوناته من أهم إرهاصات الثورة. فقد كان جامعا لكل مكونات الحركة العلمانية اللائكية المغشوشة وغيرها من المكونات الأخرى المؤمنة بالعنف وغير المؤمنة بغير العنف سبيلا لحكم البلاد، فأحكم قبضته عليها بقوة الإعلام والبوليس والقضاء، وأخضع الشعب كله لفزاعة الإسلام السياسي والحركة الإسلامية التي كان استئصالها من أهم وأكثر ما كان يجمع بين مكوناته غير المتجانسة. فقد كان نظام اعتداء على الشعب في كل المستويات، ولم تسلم في النهاية من أذاه وبطشه وبدرجات متفاوته أي فئة من فئات المجتمع التونسي. فقد كان نظام بلا لون ولا طعم ولا رائحة. أحكم فيه المستبد قبضته على كل تفاصيل الحياة. واستأثرت عائلته بالثروة. وناء حزبه بكلكله على كل مؤسسات الدولة، يمارس الفساد المالي والإداري والسياسي والإقتصادي والثقافي والإجتماعي والإعلامي والأخلاقي وغير ذلك من المفاسد. فقد كان نظام تفقير وتكفير. وكان نظام إفلاس في عالم القيم الأرضية والسماوية. وقد كان نظام عصابات ليس الوطن عندها إلا ساحة مطاردة للمخالف في الرأي ولأصحاب الحقوق المادية والمعنوية من مختلف فئات الشعب. وليس الشعب عندها إلا قطيعا ليس له من الأمر شيئا. وكان كل المطلوب منه أن "يكد ويجد" وأن يسمع ويطيع طوعا أو كرها، مما أوجد حالة من التوجس والخوف من كل شيء. وحالة من الترقب الخوف والهلع، وحلول منقطع النظير لأزمة الثقة بين كل مكونات المجتمع. فقد كان نظام اضطهاد للناس في أرزاقهم وأعراضهم ومعتقداتهم وأفكارهم، أفقدهم الأمن والأمان والراحة والإطمئنان. فلم يكن له من آلية من آليات معاجلة القضايا السياسية والثقافية والإجتماعية والإعلامية إلا العنف والقمع، بعد أن أحاط نفسه بآلة بوليسية ضخمة، وأضعف المؤسسة العسكرية إلى أدنى مستوى لها، حتى أنه يمكن أن يكون الحديث على وجود بلاد بدون جيش كلام مستساغا ومقبولا، ومجموعات سياسية ضعيفة ذليلة تعيش على الإستجداء والتسول السياسي ليس لها مثلها مثله من الأبعاد الوطنية شيء. ومن المهم أن ندأب على ذكرها حتى يعلمها كل الناس وكل الثوار، ليكون الموقف منها لاحقا بما يليق بتواطئها وانتهازيتها ودورها في تخذيل الشارع، وفي دعم نظام الإستبداد والفساد الذي هي جزءا منه، وتتحمل المسؤولية كاملة معه في ما أغرقت فيه كل هذه الجهات جميعا البلاد من فساد ونهب وقمع وإرهاب وقتل، وتعطيل للحياة السياسية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية والإعلامية..وهذه الأحزاب هي: حزب حركة التجديد (الحزب الشيوعي التونسي سابقا ) حزب الوحدة الشعبية وهو حزب يساري ماركسي لينيني كذلك، وحركة الديمقراطيين الإشتراكيين، والحزب الوحدوي الديمقراطي (قومي عربي ) والحزب الإجتماعي التحرري..(يزعم الليبرالية). وقد حرص هذا النظام ومن كان معينا ومساعدا له على إحداث مثل هذا الوضع الخانق، على إيجاد فراغ سياسي يبدوا الوضع بالبلاد بدونه متجها نحو المجهول. وقد بدا من إرهاصات الثورة كذلك صرف اهتمام وأنظار الشباب التلمذي والطلابي وغيره، خاصة عن كل ما له علاقة بإدارة الشأن العام على قاعدة أن هذه المؤسسات التعليمية للدراسة وليست للسياسة. وقد كان من أحرص الناس على فرض ذلك أولئك الذي كان من قناعاتهم أنه لا يمكن أن لا يكون لهذه المؤسسات نفسها اهتمام سياسي، وهم من تخرج منها ومن كانت منابر الجامعة هي صاحبة الفضل في تكوينهم وكسبهم الخطاب السياسي، ولم يكونوا في السلطة ولم يكونوا طرفا فيها، وكانوا في المعارضة، ليكونوا أول من ينقلب على هذه القاعدة حين أصبحوا في السلطة وحين كانوا طرفا فيها ومن أهم مكوناتها. وكان من بين هذه الرموز والرؤوس الهالك اليساري الهوية المدعو محمد الشرفي الذي تسلم وزارة التربية والتعليم والبحث العلمي في حكومة المجرم كبير الفاسدين بن علي الذي استعاد في عهده على رأس هذه الوزارة الإتحاد العام لطلبة تونس وجوده الذي جعل على رأسه اليساري الماركسي المدعو سمير لعبيدي الذي كان كبير الفاسدين بن علي قد عينه قبل رحيله بقليل ناطقا رسميا باسم حكومة الفساد. وظل اتحاد الطلاب بذلك من الأطراف التي كان لها الدور الأكبر مع البوليس في تصفية الإتحاد العام التونسي للطلبة والوجود الإسلامي بالجامعة، وليستمر على ذلك الدور في إشراف مباشر على الجامعة التونسية حتى صدور البيان الذي كان بإمضاء الرفيق عز الدين زعتور بتاريخ يومين قبل انقضاء عطلة الشتاء والذي بدا مساندا فيه لانتفاضة الشعب التونسي في بدايتها التي تطورت إلى ثورة كان شعارها الأول الذي رفعه أبناء الشعب التونسي في مدينة سيدي بوزيد " التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" منذ البداية دالا عليها، والذي دعا فيه الطلبة إلى استئناف الدروس والإنصراف إلى أجراء الإمتحانات المقررة بعد انتهاء عطلة الشتاء مباشرة، ليكون مثله كمثل أحزاب الموالاة والإتحادات والجمعيات والهيئات التي لها مصلحة في بقاء النظام والتي كانت مكونا من مكوناته، كالإتحاد العام التونسي للشغل الذي سبق لأمينه العام عبد السلام جراد أن أبدا موافقته على ترشيح كبير الفاسدين المجرم بن علي لانتخابات 2014 ولا يمكن أن يكون ذلك بمبادرة شخصية منه دون موافقة المكتب التنفيذي على الأقل على ذلك. كل هذا الإلتفاف على كل منظمات ومؤسسات المجتمع المدني والسياسي التي التحقت في الحقيقة بنظام الرئيس المخلوع كبير الفاسدين بن علي، هو الذي كان سببا في ما انتهت إليه الأوضاع بالبلاد من انسداد عجل بسقوط نظام الدكتاتور، وهي الشريكة معه في الإنتهاكات والمظالم والجرائم التي اقترفت في حق الشعب على امتداد أكثر من 22 سنة. فقد كان من أشد إرهاصات الثورة وضوحا، الحرب التي ظل يشنها نظام الرئيس المخلوع كبير الفاسدين بن علي، ومن معه من قريب ومن بعيد في المعارضة والموالاة، وفي المنظمات المهنية والحقوقية وغيرها على الشعب التونسي منذ سنة 1990 .وهي الحرب التي جعل فيها الشعب التونسي تحت طائلة الخوف من السلطان الجائر والطمع فيه، وعصا الإتهام بالإسلام وبالإنتماء للحركة الإسلامية أو بالتعاطف أو بأي علاقة مهما كانت بسيطة أو بعيدة مع أي من العناصر المحسوبة عليها مسلطة على أي من أفراده. في هذا المناخ المشحون بالخوف إلى حد الرعب، والممنوحة فيه للبوليس صلاحيات واسعة يبطش كيف يشاء وبمن يشاء ومتى شاء وأين شاء، استبيحت كرامة التونسيين وانتهكت أعراضهم وسلبت منهم أموالهم وصودرت حرياتهم ودنست معتقداتهم ومقدساتهم حتى بلغ السيل الزبا وطفح الكيل. فكانت المفاجأة التي فاجأ بها الشعب التونسي جميع الأحزاب وجميع مكونات المجتمع المدني، والتي انتهت بالدكتاتور وعصابته المقربة من العائلة والأصهار إلى مزبلة التاريخ في غير أسف عليهم، وبقيت الدكتاتورية والعصابة السياسية التي ليست ملتقية معه على شيء كالتقائها على اشتئصال الحركة الإسلامية، بما كان بمثابة حرب متواصلة لا هوادة فيها على الشعب وعلى المجتمع، والإساءة للإسلام. وقد كانت بناء على ذلك حربا على الله ورسوله، باسم العقلانية والحداثة والتقدمية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني... (يتبع) علي شرطاني