حدّث الساسة قالوا: مالكم مازلتم محتجين ومعتصمين، ألم تروا كيف ترحمنا على أرواح الشهداء الطاهرة بخمسين حزبا ممولين، من العلمانيين والليبراليين والقوميين والبعثيين واليساريين وزدنا الإسلاميين يتلون عليهم الفاتحة شاكرين، كيف لا وهم الذي فتحوا لهم أبواب جنات النعيم من بعد ما كانوا مطلوبين ومسجونين ومشبوهين وكثير منهم نكرات مجهولين لم نكن نسمع لهم همسا إلا ما رحم رب العالمين. ووفينا شهداء الثورة حقهم أجمعين فحبسنا عصابة المفسدين وطالبنا بجلب الهاربين. أفلا تشكرون. واللجان أنشأناهن إنشاء من المضطهدين السياسيين والناشطين والصحفيين والمناضلين كلهم على أرائك متقابلين للتقصي والتفصي من أذناب النظام أجمعين ومن التجمعيين المنحلين والانتهازيين والمتمعشين واللصوص المحترمين. واذكروا نعمتنا عليكم إذ آخين بين الألداء من الشيوعيين والإسلاميين فاحتشدوا بالقصبة واعتصموا مهلّلين ومكشرين، ثم من بعد ذلك فتحنا البلاد الفتح المبين أمام المعتصمين الرافعين الرايات منذ أكثر من شهرين غير مكترثين ولا عابئين بأنين الصامتين والعاطلين والمهمشين. ومن بعد كتم أنفاسكم وتكميم أفواهكم هبّت رياح الحرية وأصبحتم تجوسون خلال الديار عابثين آمرين وناهين. أفلا تعقلون. .................................................... وحدث الثائرون فقالوا: ألا لا يجلهن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين. منذ هبّة الأحرار الثائرين من الشباب غير المتحزبين ولا المتسيّسين علت أصواتكم أيها الساسة فأشعلتم جدلا سياسيا وانزلقتم في فلكه تسبحون، تتساءلون وتجيبون وتحللون دون أن تقدموا للمحرومين والعاطلين أية حلول. فوربّ الكعبة نحن على عهدنا من الثائرين حتى تعيدوا لنا حقوقنا أجمعين، خوضوا كيفما شئتم في السياسة إنا ها هنا معتصمون حتى يشتغل العاطلون ويشبع الجائعون ويكرم المحرومون، وليكن ما يكون. .................................................... وهتف الصحافي : أيها الزملاء إنكم لهالكون، إذا اتفق الساسة ووجدوا الحلول للعاطلين وأنصفوا المحرومين أمست البلاد آمنة من المحتجين والمعتصمين، فماذا ستكتبون؟ عندها أصبحنا نحن العاطلين. .................................................... فهمس الصامتون: ثورة المحرومين تلقفها القوم مستثمرين، حسبنا الله ونعم الوكيل. .................................................... هكذا بدا لي المشهد في تونس، إذ لم يتم بعد التوصل إلى أية حلول ملموسة سواء للعاطلين من الشباب أو للجهات المحرومة التي تفوق نسبة البطالة فيها 20 بالمائة وتعاني من فقر مدقع، وهو ما يفسر تواصل حركات الاحتجاج والإعتصامات في مختلف أنحاء البلاد. يقدم لنا المسار الذي انتهجته الثورة مشهدا تتداخل فيه المطالب الاجتماعية بالتطلعات السياسية. فشرارة الاحتجاجات العفوية لشباب الجهات المحرومة ضدّ البطالة والإقصاء والتهميش أهدت لتونس ثورة ضدّ مختلف أشكال الاستبداد. فتجندت القوى الوطنية لاستثمار الثورة سياسيا، استثمار مشروع بل مطلوب لإعطاء الثورة أبعادها الوطنية والحضارية، غير أن النزعة السياسوية يبدو أنها طغت على الأبعاد الاجتماعية. لا شك أن تونس اليوم تعيش مرحلة سياسية دقيقة تمثل جسرا لبناء تجربة تعددية وديمقراطية ينعم فيها التونسيون بجميع حقوقهم، وسيسجل التاريخ لتونس أنها البلد العربي الأول الذي تخلص من الاستبداد لينحت ملامح مجتمع العدل والحرية. وما تشهده البلاد اليوم سواء على مستوى أداء الحكومة وإصغائها لنبض الشارع أو على مستوى حرية الرأي والتعبير الذي تعكسه جلسات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة يؤكد أن تونس تشق طريقها نحو بناء دولة ديمقراطية. لكن تواصل الاحتجاجات والإعتصامات يؤكد أن حالة الاحتقان الاجتماعي مازالت تنخر المشهد الوطني وهو ما يستدعي وضع خطط إستراتيجية تقدم حلولا عملية وجذرية للمسائل الاجتماعية وفي مقدمتها تشغيل العاطلين الذين يفوق عددهم 500 ألف عاطل وهو رقم مرشح إلى أن يرتفع إلى 700 عاطل وكذلك برمجة مشاريع استثمارية ناجعة بالجهات الداخلية المحرومة من أجل إرساء تنمية جهوية عادلة يتقاسم عائدات خيراتها كل التونسيين. إن ملفي التشغيل والتنمية الجهوية لا يمكن معالجتهما من خلال بعض الإعانات والمساعدات التي لا تعدو أن تكون سوى مسكنات، بل يستوجب معالجة جذرية عبر تنفيذ مشاريع تنموية تمولها الدولة والقطاع الخاص. كما يمكن استثمار الثقة التي باتت تحظى بها تونس اليوم لدى شركائها وفي مقدمتهم بلدان الإتحاد الأوروبي من أجل استقطاب المزيد من الاستثمارات الخارجية في قطاعات حيوية وواعدة. غير أن ذلك يبقى رهين الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد ووضع حد لحالة الانفلات التي تهدد اليوم بشكل خطير أداء المؤسسات الاقتصادية الوطنية والأجنبية على حد سواء. هناك مسألة خطيرة تستوجب الحذر، إذا كانت المطلبية الاجتماعية التي استفحلت في صفوف مختلف فئات المجتمع كما لو أن الثورة أمطرت ذهبا تعد حالة سلبية قد تفرغ الثورة من أبعادها السياسية والحضارية، فإن مفاضلة ملف الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي عن معالجة الملف الاجتماعي يعد تهميشا للمنطقات الاجتماعية للثورة وفي هذه الحال قد لا تعني الحريات والديمقراطية أي شيء بالنسبة للعاطلين والمحرومين والمهمشين. وباختصار فإن الاحتقان الاجتماعي لن تنفسه حرية الرأي والتعبير ولا تعدد الأحزاب بل هو رهن حلول عملية لمشاغل المواطن المعيشية. منور مليتي