تونس ما بعد الثورة : من قاعدة شاركني أو اندثر الى قاعدة تطوّر أو اندثر تربى الغرب على قاعدة "Think out of the box" أما نحن في تونس فقد تمت تربيتنا على قاعدة "شد مشومك لا يجيك ما أشوم". هذه الامثال البالية التي تكرس الجمود والرضاء بالرداءة بل والاقتناع بها على أنها الافضل هي التي ساعدت الانظمة الديكتاتورية المتخلفة السابقة على احكام سيطرتها على المجتمع و التسلط عليه و بثّ جوّ من الركود و التحنط الفكري و الاجتماعي و السياسي. عاشت تونس خلال الخمس و الخمسين سنة الماضية على وقع حكم سلطوي مبني على تأليه شخص الرئيس سواء في حقبة بورقيبة أو بن علي. و قد بنيت أسس النظام على الولاء أولا و أخيرا، و لا يقتصر هذا على المناصب العليا الادارية و السياسية في الدولة بل يتجاوزها ليشمل قطاع المال و الاعمال و ذلك على مستوى اسناد القروض البنكية و الظفر بالصفقات العمومية و اللزمات وخصخصة المؤسسات العامة و غيرها من الجوانب التي يمكن للسياسي أن يجود به على الاقتصادي. غير أن ممارسات السلطة السياسية لم تكن بعيدة عن أعين بقية أفراد الشعب و بعض من مجتمع رجال الأعمال و الذين لم يكونوا ينظرون بعين الرضا لما يحدث، لكنهم لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا أمام استئساد السلطة السياسية على الدولة و المجتمع. و هنا لا أخص نظام بن علي وحده بالفساد بل ان حقبة الرئيس الرحل بورقيبة كانت أيضا واحة للمحسوبية. غير أن عهد الرئيس المخلوع تميزت بقاعدة "شاركني أو اندثر"، وهي تمثل أقصى أنواع الفساد وقاحة وقسوة. وقد أدى هذه التمشي من الفساد الممنهج الى ظهور "قطط سمان" لم يكن لها -قبل مشاركتهم لعائلات السلطة- شأن يذكر كما أدت أيضا الى اندثار أسماء كانت معروفة في عالم المال و الاعمال في تونس نظرا لعدم تناغمها مع جو الفساد السائد حينها في البلاد. في فترة الرئيس المخلوع كان يكفي أن يستظهر صاحب الشركة بأن شريكة واحد من أفرد عائلات السلطة حتى يكون النجاح حليفه في أي خطوة يخطوها أو أي مشروع يقيمه. التسهيلات لم تكن بنكية أو ادارية أو جبائية فحسب بل كانت تتجاوز ذلك بالحصول على معلومات سرية حول المشاريع المستقبلية للدولة أو لبعض المؤسسات تعطية الاسبقية للفوز بها أو قطف بعض ثمارها. جاءت الثورة المباركة من حيث لم يحتسب شركاء العائلات الحاكمة السابقة، و زال الغطاء البنكي و الاداري و الجبائي و جفت المعلومات عن المشاريع المستقبلية، لقد تغيرت قواعد اللعبة أو هذا ما يبدو. القاعدة اليوم أصبحت "تطور أو اندثر". قد يقول البعض بأن الفساد موجود في كل زمان و مكان و أنّ العائلات الحاكمة زالت غير أنّ من كانوا ينفذون الخدمات الخاصة مازالوا موجودين في قواعدهم آمنين نسبيا. قد يبدو هذا صحيحا الى حد ما، لكن الحقيقة هي أن تونس اليوم بصدد اعادة التبلور ليس سياسيا فقط بل و سيشمل ذلك جميع القطاعات. كما أن الاعين التي كانت من قبل تراقب الفساد دون القدرة على الابلاغ خوفا من البطش اليوم بمقدورها كشف أي لعبة قذرة تدور في الخفاء. لقد أصبح المواطن أكثر ايجابية في الاهتمام بالشأن العام وهو سيكون المحركة الاساسي لمحاربة الفساد، لانه لن يسكت اذا عاين شيئا لا يعجبه أو تشوبه شبهة ما. من كان يبني مجده و مستقبله على الولاء لشخص ما أو عبر الانتماء لجهة ما، فقد حرم من ذلك و لم تبق سوى قاعدة البقاء للأفضل و النجاح للمتميز. والكفاءة سواء على مستوى الاشخاص أو على مستوى المؤسسات هي التي ستحدد مدى النجاح أو الفشل. الفاسدون اليوم في تونس يرقصون رقصة الديك المذبوح، قد تراهم في بعض وسائل الاعلام يحتجون و يشجبون و ينتقدون، أو في المحاكم يدافعون عن أنفسهم، أو في جحورهم مختبؤون الى حين، لكن القطار قد فاتهم و نرجوا أن يكون الى الابد. لتطوى صفحة مظلمة من تاريخ تونس المستقلة، صفحة رسمت بلغة الاقصاء و التهميش لمعظم التونسيين، صفحة كانت سياسية التنويم و التخدير للشعب تمارس بصفة متواصلة مما أدى الى تصحر فكري و ابداعي رهيب، اضافة الى بعض مظاهر التفكك الاجتماعي و الانهيار الأخلاقي. تونس اليوم ستكون للأكفأ سواء في المجال الاقتصادي أو السياسي، و لأن عجلة الزمن تسير داوما الى الأمام و لان سنة الله في كونه هي التغيير و التطور فإن الرجوع الى الوراء صار مستحيلا و من يحاول عبثا القيام بذلك أملا في استرجاع المجد الضائع فانه كمن يركب باخرة أو طائرة و يحاول بجهده الفردي جرها الى الخلف. علينا جميعا أن نغير القوالب الجاهزة التي تربينا عليها والمتعلقة بالخوف من المبادرة و الخوف من المستقبل و الخوف من الأشخاص الذين لا نعرفهم. علينا أن نؤمن بحظوظنا كاملة و بقدرتنا على بناء دولة حديثة ماديا متماسكة اجتماعيا، متأصلة أخلاقيا. و في كل الاحوال فإننا لسنا مخيّرين فإمّا أن نتطور أو سنندثر، فالعالم من حولنا يتغير وبسرعة رهيبة، و نحن قادرون على أن نتطور ونلتحق بمن سبقنا. صحيح أننا قضينا كوطن أكثر من نصف قرن في التخدير و الحركة البطيئة لكن الامثلة أمامنا للأمم التي تحررت من التخدير تثبت أن التغيير و التطور سيكون سريعا جدا لتدارك ما فات و ليس أدل على ذلك من تجارب اسبانيا اثر حكم فرنكو، و اندنيسيا اثر حكم سوهارتوا، و البيرو اثر حكم فوجيموري. كل هذه التجارب تثبت أنه عندما يتحرر المجتمع من تخدير الديكتاتوريات فإنه يحطم حلقات الفساد في البدأ و هو ما قد يأخذ بعض الوقت ثم يتسارع تطوره الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي اثر ذلك. و نحن في تونس لسنا أقل نضجا من هذه الشعوب لنحقق ما عجزنا عن تحقيقه في نصف قرن من الزمن.