خلال لقائه الحشاني/ سعيد يفجرها: "نحن مدعوون اليوم لاتخاذ قرارات مصيرية لا تحتمل التردّد"    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    طقس الخميس: سحب عابرة والحرارة تتراوح بين 18 و26 درجة    الإبقاء على الإعلامية خلود المبروك والممثل القانوني ل'إي أف أم'في حالة سراح    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    "تيك توك" تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها    بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    سعيد: لا أحد فوق القانون والذين يدّعون بأنهم ضحايا لغياب الحرية هم من أشدّ أعدائها    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف العمل من اجل التغيير في الخطاب الاسلامي:بين ثقافة الانبطاح و ثقافة الاصلاح 2


بسم الله الرحمان الرّحيم
كيف العمل من اجل التغيير في الخطاب الاسلامي
بين ثقافة الانبطاح و ثقافة الاصلاح
كيف المحافظة على الحياة في ضلّ الهوية العربية الاسلامية ونعمة الحريات الشخصية
الحكمة تقتضي ترك عقلية تبسيط الأمور و استعجال النتائج و الاستخفاف بالآخر
لا تنمية اقتصادية و اجتماعية و ثقافية بدون ضمان الحقوقّ في الشغل وااتفكير والتعبيروالتنظّم
(الجزء الثاني)
"واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم أعداءا فألّف بين قلوبكم" (آل عمران 103)
"قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله" (سورة يوسف 108)
باريس في 15 جوان 2008
بقلم : عبد السّلام بو شدّاخ، احد مؤسسي الحركة الاسلامية في تونس

من معاناة الاستاذ الدمني : لقد صرّح الاستاذ الدمني في حديث لحوارنت يوم 18 ماي 2008 جاء فيه : "فأنا ما زلت أحلم باليوم السعيد الذي أبلغ فيه مرتبة المواطن الذي يحصل على حقوقه كاملة مثلما يؤدي واجباته كاملة. واقع الحال أنني لم أغادر منزلة "المُساكِن" (cohabitant)، و إن شئت فقل: منزلة "دافع الضرائب" التي أُرغِمت عليها لأكثر من ربع قرن، أي منذ سنة 1981، تاريخ أول حكم صدر ضدي بالسجن بسبب نشاطي السياسي.
" فمنذ ذلك التاريخ، ظللتُ على مر الأيام و السنين ضحية للتهميش و الإقصاء و الحرمان من الحقوق المدنية و السياسية (و ليس أقلها الحق في مباشرة الشأن العام، و الحق في التنقل إلى الخارج - علما بأن آخر مطلب أودعته لدى مصالح الأمن للحصول على جواز سفر قد مر على تقديمه أكثر من عام، دون أن أتلقى أي جواب عليه إلى حد اللحظة-) علاوة على بقية الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية الأخرى (و أهمها الحق في العودة إلى شغلي الأصلي في ميدان التعليم العمومي).
و يواصل الاستاذ الدمني "مع الإشارة إلى أن القضايا السياسية التي صدر فيها ضدي أحكام بالسجن ترجع كلها إلى العهد البورقيبي، أي أنه قد مضى على صدور تلك الأحكام أكثر من عشرين سنة؛ و كان من المفروض، فوق ذلك، أن أستفيد قانونيا من "العفو التشريعي" الذي تم سَنه بعد انتخابات عام 1989 الشهيرة. لكنك "تسمع جعجعة و لا ترى طِحنا". و لا تمثل وضعيتي الشخصية إلا عينة من وضعيات كثيرة مشابهة، تعكس كلها ما آل إليه حال الحريات في تونس راهنا.
"أنا لا أبرِّئ نفسي من أي تقصير عملي. و لكني مع ذلك لست من أنصار استراتيجية الصدام الدائم. و لقد ازددت اقتناعا، بعد المأزق الذي تردت فيه تجربة الإسلاميين و تجربة حركة الإصلاح عموما في تونس (و لست أعني أن نظام الحكم و حلفاءه ليسوا في مأزق)، بأن الحكمة باتت تقتضي ترك عقلية استسهال الأمور و استعجال النتائج و الاستخفاف بالآخرين؛ و الانخراط بدل ذلك في عمل مدني طويل المدى، دون الاستهانة بأيّ طاقة بشرية أو بأيّ جهد مهما بدا أوليا أو ضئيلا.
"فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره" و " لا يحقرنّ أحدُكم شيئا من معروف". لا سيما أننا إزاء واقع قد فعلت فيه قرون الانحطاط و الاستبداد ما نعلم، و أنه ليس من السهل على من يعيش داخل وطنه في الظروف الراهنة أن يمسك بطرفي معادلة الكد المضني من أجل البقاء، و السعي إلى الإصلاح، في ذات الوقت. لكن ما لا يُدرَك كله لا يُترك جله، كما يقال. ثم هل نحن بحاجة إلى التذكير بأن همّ السياسة لا ينبغي أن يشغل عن هموم الثقافة و الاجتماع؟
خصوصا بالنسبة إلى من أوصدت في وجهه أبواب العمل السياسي، بينما ظلت أبوابُ الفكر و باقي أعمال الخير مفتحة كثيرا أو قليلا. على أن السنوات الأخيرة لم تخل من دروس و عِبر أفدتُها: من ذلك، ليس على سبيل الحصر طبعا، أنه قد ترسّخ لديّ اقتناع قديم بأفضلية المنهج المدني القانوني و التدريجي في العمل الإسلامي.
فقد أكدت الأحداث أن هذا المنهج المنسجم مع مبادئ الإسلام و مقاصده هو الذي يتساوق مع اتجاه التاريخ و مع خلاصة الخبرة البشرية المعاصرة: حيث نلحظ اليوم توجها كونيا عاما نحو صحوة الشعوب و نجاحها المضطرد في فرض إرادتها على حكوماتها بالوسائل المدنية التي لا تعوزها القوة و الفعالية (و التحولات التي تحصل في هذا الاتجاه في بلدان أوروبا الشرقية و أمريكا اللاتينية مثلا هي مادة ثرية للاعتبار)؛ لا بل إن "العنف الثوري" ليبدو أمام هذا المنهج مغامرة مراهقة.
و لقد تابعت بكثير من الاهتمام و التقدير النجاحات التي حققتها عدة حركات إسلامية في العالم بانخراطها في المنتظم القانوني و التزامها معايير الديموقراطية و الأساليب المدنية في التغيير. و أنا لا أتحدث هنا عن نجاحات بالمعنى الحزبي المحدود، أي بحساب المقاعد و المواقع السياسية "المربوحة" فحسب- و إن كانت ذات اعتبار- و إنما أتحدث خصوصا عن نجاحات في التسيير و الأداء التنموي الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي، و ما رافق ذلك من وئام سياسي و انصراف إلى خدمة القضايا الحضارية الكبرى، على نحو ما هو حاصل في بلدان مثل ماليزيا و تركيا و إندونيسيا؛ و بدرجات أقل في المغرب و الكويت و بلدان أخرى تسير على ذات الدرب. و لست أشك في أن تلك النجاحات قد عادت بالفائدة على عموم المجتمعات التي تنتسب إليها تلك الحركات. و لا أخال الأنظمة التي أتاحت المجال لتلك التجارب إلا مرتاحة لنتائجها.
و هذا ما كنت أتمنى حدوثه في بلدي منذ زمن، حيث كانت مناداة الإسلاميين بالديموقراطية مبكرة نسبيا، و ارتفعت أصواتهم للمطالبة بتعددية حزبية لا تستثني أحدا، و بضمان نزاهة الانتخابات، و باحترام أحكام صناديق الاقتراع، أيا كان الفائزون، منذ مطلع الثمانينات. لكن جرت الرياح بما لم يشته السفِن، و تم التفويت في أكثر من فرصة تاريخية كانت ستعود على المجتمع كله بنفع عميم.
و في مقابل ما ذكرت من صور مشرقة، قدّمت تجارب إسلامية أخرى في العالم أكثر من دليل ميداني على فساد منهج العنف الذي أوقع أصحابه – بسبب تعجلهم و عدم واقعيتهم و خطآِ رؤاهم و اضطراب موازينهم، رغم صدق النوايا في الغالب – في مآزق و فتن تراوحت بين اشتباك شامل مع أنظمة محلية، و أحيانا مع تنظيمات شعبية ذات مصالح مناقضة، (و لا يخفى ما نتج عن ذلك الاشتباك في بعض البلدان من هرج و مرج و محن و عموم بلوى)؛ و بين حروب مفتوحة مع بعض القوى العظمى و أحيانا مع المجتمع الدولي بأسره، دون أن يحرز المشتبكون أي تقدم حقيقي على طريق التغيير، اللهم إلا تغييرا بخلاف القصد.
وهذا مآل لا يسر صديقا و لا يغيظ عدوا. (و تُستثنى من المشهد الأخير، بكل تأكيد، حركات التحرر الوطني: فهذه لها أحكامها الخاصة، لأن المحتلّ الأجنبي إذا حل بأرض المسلمين تكون مقاومته، بكل الوسائل الممكنة، فريضة يمليها الدين، و واجبا وطنيا تحميه الشرائع و القوانين الدولية). يقول الاستاذ الدمني انني مقتنع بوجاهة كتابة تاريخ التجربة الجماعية و بضرورة تقويم مسارها العام.
وفي سؤال آخر عن أي مشروع اسلامي يحتاجه الشأن التونسي يجيب الاستاذ الدمني :" من خلال التجربة الميدانية، و بالرجوع إلى معطيات التاريخ القريب، يتضح أن التحدي الأساسي الذي يواجه المشروع الإسلامي و عموم مشروع الإصلاح في تونس حاليا يكمن في قابلية المجتمع للاستبداد أكثر مما يكمن في الاستبداد ذاته.
فأنا أمْيَل إلى الظن أن معضلة الأمة الراهنة لم تعد تكمن في قابليتها للاستعمار، كما كانت في السابق، على نحو ما صور ذلك بحق المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، عندما حلل ظاهرة الاستعمار المباشر. فالشعوب الإسلامية – و لا أتحدث البتة عن بعض أنظمة الحكم أو النخب السياسية الهامشية – قد تطورت روحها التحررية كثيرا منذ ذلك العهد.
و الشاهد على ذلك أنها لم تستقبل المستعمر العائد من بوابة المشرق إلى أرض أفغانستان (في نسختيه: السوفييتية ثم الأمرييكية-الأطلسية) و العراق و الصومال مثلا بالورود، كما كان يحلم، و لا هي استسلمت حاليا لما يرتكبه الصهاينة كل يوم من جرائم قتل و استيطان و حصار و تجويع في فلسطين، و لا انكسرت إرادتها أمام آلة الدمار الإسرائيلية في لبنان.
فوقائع المقاومة في كل تلك الربوع في تصاعد مستمر، و نتائجها تبشر بكل خير.. لكن المعضلة الأكبر تبقى قائمة كلما تعلق الأمر بالإصلاح الداخلي، حيث ظلت شعوبنا على العموم قابلة للاستبداد نتيجة لعوامل تاريخية و مجتمعية مركبة رسخت في وعيها الجمعي ثقافة الاحتراز من الفتنة.
و ذلك مثلا ما تعكسه عبارات متوارَثة جرت على ألسن العامة و حتى الخاصة مجرى الأمثال كقولهم: " ملكٌ غشوم خير من فتنة تدوم" أو قولهم باللهجة التونسية: "شد مشومك لا يجيك ما أشوَم"...
إن حال النظام عندنا لا يختلف نوعيا عن أحوال عموم الأنظمة العربية أو الإفريقية مثلا. لكن نلاحظ أن مستويات الانفتاح السياسي و درجات الانتقال الديموقراطي في ظل كثير من تلك الأنظمة هي أفضل مما هو موجود هنا. إذن، كيف نفسر الفارق إن لم يكن ذلك باختلاف الديناميات الاجتماعية و المدنية؟
أنا أميل إلى أننا في تونس أمام تحد مجتمعي مزدوج يكمن تحديدا في تظافر عاملين اثنين هما: التصالح الشعبي مع ثقافة الخضوع من جهة، و سوء أداء الهياكل المدنية و الجمعوية من جهة أخرى. و لكل ذلك عوامله الاجتماعية - الثقافية و حتى التاريخية: و من المفيد الاستذكار، في هذا الصدد، إلى أن تاريخ تونس الحديث في مجال المقاومة، حتى ضد الاستعمار، لم يكد يعرف ثورات شعبية تصاعدية مسترسلة، بقدر ما شهد انتفاضات متقطعة و محدودة في الزمان و في المكان، و أحيانا في الأثر: (انتفاضة علي بن غذاهم: 1864، انتفاضة الزلاج: 1911، أحداث الشهداء: 9 أفريل/نيسان 1938، الانتفاضة العمالية: 26 جانفي/يناير 1978، انتفاضة مدينة قفصة: 1980، انتفاضة الخبز: 4 جانفي/يناير 1984...).
و المستفاد من ذلك أن تاريخ تونس الحديث لم يوفر عنصر التراكم في مجال المقاومة الشعبية في وجهيها: المسلح ضد المستعمر، و المدني ضد السلطة. فالاتحاد العام التونسي للشغل مثلا، و هو التنظيم النقابي العريق عربيا و إفريقياًّ، الذي كان له دور طليعي في التصدي للاستعمار الفرنسي، و قاد واحدة من أهم الانتفاضات في تاريخ تونس المستقلة (1978)، هو الآن أقل فعالية مما كان عليه في السبعينات.
و الأمر قد يكون أكثر فداحة بالنسبة إلى جمعيات مهنية و حقوقية و أحزاب سياسية أبلت بلاء حسنا على الصعيد المدني منذ أكثر من ربع قرن، لكنها اليوم تعيش أوضاعا محزنة من التفكك و التراجع. و لا جدال في أن كل ذلك قد خلف رواسب سلبية في الوعي الجمعي.
و الملحوظ أن تلك الرواسب قد تزامنت مع انتشار ثقافة الاستهلاك و ما اقترن بها من تنامي عامل الخوف على المستقبل و استفحال الهاجس الأمني في ظل غلاء المعيشة، و أجواء الإحباط و خيبات الأمل المتكررة الناجمة عن كثرة المحاكمات السياسية...
مما أنشأ ظاهرةَ وَهَنٍ عام و عزوفٍ عن العمل الجماعي و عن المبادرة و التضحية في أوساط الطبقة الوسطى المتآكلة أصلا. مع العلم أن هذه الطبقة هي التي عليها المعوَّل في أي تغيير أو إصلاح. لكنها حاليا لا تجد مَن يعبر عن طموحاتها و يقود مطالبها الاجتماعية و السياسية بحكمة و شجاعة. فليس من قبيل المصادفة أن تكون ساحة النضال الاجتماعي اليوم خالية من قائد شعبي جامع من وزن الزعيم النقابي الراحل الحبيب عاشور.
و كذا الحال بالنسبة إلى الساحة السياسية بعد اعتزال السيد أحمد المستيري إثر انتخابات 1989، و اختيار الشيخ راشد الغنوشي سبيل الهجرة في أواخر الثمانينات، ثم اضطراره إلى البقاء في المنفى. و أنا أزعم أن الساحة الدينية أيضا تشكو من ذات الفراغ: فأين علماء الدين حاليا من جهود الإصلاح، بعد وفاة أعلام فقهية وازنة من أمثال الشيخ مختار بن محمود و الشيخ محمد صالح النيفر و الشيخ محمد الحبيب المستاوي و الشيخ عبد الرحمان خليف و الشيخ محمد الأخوة رحمهم الله جميعا، و غيرهم ممن كان لهم مواقف و مبادرات مشرفة و شجاعة، سواء من داخل السلطة أو خارج دوائرها، و أحيانا ضدها... ؟
و حاصل القول: إن آليات المجتمع المدني باتت، فيما يبدو، فاقدة القدرة على صناعة القيادة، ليس بمعناها المشخص (على ما للأشخاص من قيمة)، و إنما بالمعني الذي يحيل خاصة إلى المؤسسة و إلى روح المبادرة و الإقدام النضالي، بصرف النظر عن الأفراد و الألقاب و المناصب..
و لعل هذا ما جعل كثيرا من الشباب (و بخاصة المتدينين منهم) يبحثون عن نماذج قيادية فوق- قطرية تحضن سَوْرتهم و تشحذ عنفوانهم و تمارس عليهم التوجيه عن بعد – و أيّ توجيه..!–. و لئن كانت السلطة في مختلف مراحلها غير بريئة فيما يتعلق بهذا المآل، فإن للمجتمع المدني مسؤوليته التي لا نزاع فيها.
و لنا أن نراجع علماء الاجتماع السياسي لندرك ما يخلفه غياب المثال القيادي من آثار سلبية على حالة الوعي و السلوك و على بنية المجتمع. و نحن هنا أمام تحد يواجه الجميع بدون أيّ استثناء، مما يستدعي كثيرا من التفكير و الجهد لتدارك الأمر.
إذ لا أمل في أي إصلاح اجتماعي أو سياسي بدون تمحض جهة تصوغه نظريا و تقوده عمليا، و تفدِم على ما يقتضيه الظرف من مبادرات شجاعة. و لئن كان سبيل العنف في هذا المضمار مرفوضا مبدئيا و عديم الجدوى من الناحية العملية، فإن الأيام قد بينت أن أسلوب "يا كريم متاع الله !" التسوّلي هو الآخر ليس أقل عقما...
و لا حل إذن إلا بتصور نهجٍ مدني في العمل، و رسم سبيل إلى أن تكون قيادة هذا النهج مناضلة ليس للشعب فحسب، و إنما بالشعب أيضا؟
ذلك هو التحدي الاستراتيجي الذي إن لم يتم رفعه عمليا، فإن مناضلي الجماعات العاملة من أجل التغيير و الإصلاح سيكونون، لا سمح الله، "وقود مرحلة" ليس أكثر؛ و ستظل الجماهير العريضة، التي نهض هؤلاء المناضلون من أجلها في الأصل، ملازِمة مواقع التفرج و اللامبالاة.
و ربما لن يزيد تضامنها مع ضحايا المرحلة في أحسن الأحوال على المواساة المحتشمة، أو المشي في جنائز الشهداء، بعد أن تكون صروف المحن و عفن السجون قد فتكت بأجسادهم. لست أسوق هذا الكلام تحقيرا للجهود و لا تثبيطا للعزائم و الهمم. فقدْرُ المناضلين و الشهداء يبقى بين الناس رفيعا، و أجرهم عند الله عظيما، ما في ذلك ريب أبدا.
و إذا كان الله تعالى يأجر حتى على الشوكة ثصيب المؤمن في حياته، كما في الحديث النبوي، فما بالك بأجر المبتلين و الشهداء في سبيل الإصلاح؟ "إنا لا نضيع أجر المصلحين" (سورة الأعراف، الآية 170) " و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله.." ( سورة آل عمران، الآية 169).
لكن هذا لا يتعارض البتة مع ضرورة البحث عن سبل الصواب و الأخذ بأسباب النجاعة و النجاح وفق موازين الدنيا. و إلا فما معنى قول الرسول صلى الله عليه و سلم: "من اجتهد و أصاب فله أجران، و من اجتهد و لم يصب فله أجر واحد"؟
...أن الثقافة العلمانية، بوجهيها الليبرالي و اليساري، هي اليوم في حالة مد و ريادة تونسيا. بل الملاحَظ أنها في تراجع متزايد سواء على الصعيد الرسمي أو على صعيد الحضور المجتمعي أو في أوساط النخب الجديدة المتعلمة.
و ذلك بفعل يقظة روح التدين الشعبي العارمة من جهة، و بفعل تعجل كثير من رموز العلمانية و أنصارها، خصوصا اليساريين منهم، تغيير مواقعهم و التحاقهم بالسلطة، لا سيما بعد 1987، من جهة أخرى. فهؤلاء لم يعودوا مؤهلين لأن ينفردوا بقيادة أي حركة للإصلاح الاجتماعي أو السياسي على المدى المنظور، بعد أن استهلكتهم البيروقراطية و أحرقوا قواربهم و فقدوا كثيرا من الإشعاع الشعبي. هذا لا يعني البتة التقليل من شأن هؤلاء و أولئك.
فلعل تونس تنفرد في الوطن العربي بامتلاك أوسع نخبة علمانية و أكثرها عنادا، لأنها تتلمذت في المدرسة الفرنكوفونية المعروفة بتطرفها في هذا المضمار. لكن تلك النخبة لئن كسبت معركة المواقع، منذ العهد البورقيبي، إلا أنها لم تكسب معركة الثقافة و التاريخ. و للحركة الإسلامية دور مؤكد في ذلك. على أن المطلوب حاليا في نظري هو تخلي الجميع عن منطق الشقاق و الصدام الذي لا طائل من ورائه.
فالمصلحة الوطنية العليا تقتضي التقارب بين الإسلاميين و غيرهم، و اجتناب أساليب الابتزاز السياسي و الملاحقة الفكرية عن أيّ طرف صدرت، و التركيز بدل ذلك على ما يجمع سياسيا لا على ما يفرّق أيديولوجيا، حتى تستقر لدى الجميع روح التسامح و الاعتدال و إرادة التطور، و ينصرف الكافة إلى رفع التحديات المصيرية التي تواجه الوطن و الأمة.
و المدخل إلى ذلك هو الحوار الصريح، و العمل المشترك في حدود الممكن و على قاعدة الحفاظ على الهوية الوطنية، و الدفاع عن الحريات و الحقوق، و إرساء دولة المواطنة و العدالة و المساواة التي لا منجاة لأحد خارجها.
و في جواب على سؤال آخر عن الصحوة الاسلامية و مستقبلها في البلاد قال الاستاذ الدمني :" هذه الظاهرة ليست خاصة بتونس. فبإمكانك ملاحظة مثيلاتها و أكثر منها اتساعا في كل بلدان العالم الإسلامي مشرقا و مغربا. و هي من هذا الوجه ظاهرة اجتماعية عامة ذات مضمون ثقافي حضاري، تعكس حالة أمةٍ تبحث عن قيمها المفقودة، و عن سبيل إلى التحرر من واقع الضياع التاريخي الذي تردت فيه منذ قرون.
و قد عبرت الأمة في هذا الخضم عن كونها ما تخلت قط عن مراجع استدلالها الحضارية النابعة من إسلامها، و لا هي ضيّعت بوصلتها الاستراتيجية المستلهَمة من تاريخها التحرري، رغم آثار سنين الانحطاط ثم الاستعمار في الماضي، و رغم تسلط الدول الوطنية و تداول الأيديولوجيات، و هيمنة قيم العولمة، و محاولات فرض ثقافة الاستسلام بقوة القذائف الرهيبة المتساقطة على أرض فلسطين و أفغانستان و العراق و لبنان و باكستان و الصومال... في الحاضر. "يريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يُتِم نوره" (التوبة - 32)
لا شك أن الحالة الدينية العامة في تونس قد شهدت تراجعا و انكماشا ملحوظين في عقد التسعينات، متأثرة بالأحداث التي وضعت السلطة و "حركة النهضة" وجها لوجه. لكن تلك الأوضاع لم تدم أكثر من سنوات معدودات، ما لبث أن عبّر المجتمع بعدها عن عراقة منبته في ثقافته الدينية، و أكد أن نزاعات السياسة ليست كفيلة بأن "تجفف ينابيع" الإيمان فيه أو بأن تجعل شعبه يوما بمعزل عن معاناة أمته الكبرى و عن توقها إلى الانعتاق و الكرامة؛ لا سيما بعد أن تفاقمت مظاهر استضعافها و تعددت محاولات السيطرة على مقدّراتها من قبل القوى الدولية العظمى، و غدا ذلك محسوسا أكثر فأكثرعلى المستوى الاقتصادي و الاجتماعي المحلي.
فما كاد نظام الحكم يعلن "طي صفحة التطرف الديني" في تلك المرحلة، و ما كاد المثقف الفرنسي المولع بتونس فريديريك ميتيران(Frédérique Mitterrand) يفرغ من التبشير عبر الفضائية الفرنسية الخامسة (TV5) بأنه "لم يعد ثمة مِن خطر أصولي في تونس "،، حتى اكتضت المساجد بروادها أكثر من ذي قبل، و فاضت على أهل البلاد روحُ إيمانٍ غضٍّ لا يلوي أصحابه على شيء، و غدت العين لا تخطئ آثار ذلك حيثما نظرت.
و قد ساعد على هذا التحول عوامل ثانوية منها: تطور المبتكرات الاتصالية و انتشار الفضائيات التي وفرت للجمهور العريض عِوضا عما افتقده في ساحة الثقافة و التوجيه الديني المحلي، خصوصا في ظل تطبيق قانون المساجد.
فراح الجميع ينهلون المعارف حول دينهم و دنياهم و يتلقفون أخبار المسلمين في العالم، و حتى أخبار بلادهم، بلا واسطة و لا رقيب. فاستأنف الوعي صحوته بعد غفوة اضطرارية عارضة.
تسألني: إن كان ذلك منتظرا... ؟ الجواب متوقف على مدى سعة اطلاع المتابعين و استقلال إرادتهم. فكل مَن قرأ التاريخ و فقه سننه و تعرّف إلى المجتمع التونسي عن قرب كان عليه أن يتوقع حصول شيء من ذلك.
لكن يبدو أن النزعة الاستئصالية قد هيمنت على نفوس عدد من الساسة و المثقفين في مختلف المواقع، فتعطلت معارفهم و ما عادوا قادرين على النظر بعيدا. و قد تجلى هذا العجز الاستشرافي بالخصوص في كتابات عدد غير قليل من حَمَلة الأقلام التونسيين الذين اكتفوا بالوصف دون التحليل، و راحوا طوال التسعينات يشرحون للرأي العام "كيف هُزم الإسلاميون"، غافلين عما خلفه ضرب "النهضة" من تداعيات سلبية على أوضاع الحريات العامة و على الشأن الديني الخالص، و غير منتبهين لما سينشأ عن ذلك لاحقا من ظواهر و ردود أفعال اجتماعية و ثقافية
و إذا كان مردّ هذا التوجه القاصر هو خوف كثير من المثقفين المستقلين و الإعلاميين الحِرَفيين من التعبير عن مواقف قابلة للتأويل و ربما للتوريط السياسي، فإن مردّه بالنسبة إلى بعض المؤدلجين و المنتمين حزبيا هو تقديرهم أن إقصاء تنظيم سياسي ذي خلفية دينية عن الشأن العام، بأسلوب أمني، هو كفيل بأن يريحهم من خصم عقائدي قوي و صعب المراس، و بأن يعفيهم إلى الأبد من معالجة إشكالية العلاقة بين الدين و الدولة، و من ثم بين الدين والمجتمع، وفق تصور ديموقراطي جاد.
و قد توخى بعضهم في كتاباته أساليب السب الوضيع و حاولوا تقديم "حركة النهضةّّّ" على أنها أنموذج للإرهاب في العالم الإسلامي، على غرار ما فعل الكاتب القريب من السلطة عبد الله عمامي في كتاب له. فكان هذا الصنف الأخير من الكتّاب خادمين موضوعيين للحل الأمني.
و لست أدري إن كانوا قد انتبهوا الآن إلى مخاطر المعالجة الأمنية للقضايا السياسية، و أدركوا أن الإشكالية الأصلية المتهرَّب من معالجتها لم تزل قائمة، و أن التطورات اللاحقة قد أعادتها إلى جدول الأعمال، و زادتها راهنية و تعقيدا.
و يقول ايضا :" صحيح أن موجة التدين الحالية هي في ذاتها موجة ثقافية، كما أسلفت. لكننا نعلم أن الحدود بين الثقافة و السياسة ليست مقفلة. فمن حيث الإمكان النظري، قد تكون هذه الموجة رافعة لأكثر من ظاهرة سياسية. و الثابت أن أسلوب تعامل كل الفاعلين مع هذا الموضوع هو الذي سيحدد طبيعة ما سيتشكل مستقبلا من تداعيات متصلة بالصحوة، تزيد أو تقل نفعا للمجتمع.
لذلك فليس من المصلحة أن ينظر الأطراف السياسيون إلى الصحوة بمنظار أيديولوجي أو حزبي ضيق، أو أن يجعلوها موضوع رهانات سياسية محدودة الأفق. فلا هي في الواقع "مكسب حزبي" للإسلاميين، و لا هي خطر على مستقبل نفوذ الحزب الحاكم، مطلقا. ذلك أنه بالاعتماد على المتابعة الدقيقة و المخالطة اليومية، يمكنني أن أجزم بأن أتباع الصحوة ليسوا متجانسين من حيث الوعي السياسي و لا حتى من حيث الانخراط الفعلي قي الشأن العام. بل المسيَّسون منهم يُعدّون قلة قليلة.
أما المتمردون أو الذين استهوتهم النزعة المسماة ب "الجهادية" فهم قلة ضمن القلة. و لعل النبيه قد لاحظ أن "الجبة لا تستر شيخا" في كل الأحوال، كما يقال.
بل إن ظواهر سلوكية و هندامية، جرت أحيانا مجرى الموضة، قد خالطت أوجها من هذه الموجة و جعلتها بالتالي في حاجة إلى تقويم و إلى معالجة دينية فقهية خالصة، بعيدا عن أساليب السياسة و عن الاعتقالات و المحاكمات الاستباقية التي قد تحرف صحوة التديّن عن جوهرها الخيّر و تدفع بأصحابها إلى الغلو و التشدد وعيا و سلوكا.
و إذا كان حريّا بأهل الذكر في علم الاجتماع الديني و الفلسفة السياسية و بالفقهاء و علماء أصول الفقه و غيرهم من ذوي الاختصاصات المعرفية ذات الصلة، أن يجتهدوا في دراسة هذه الظاهرة و يقوموها باعتماد المفاهيم و المناهج العلمية الصحيحة، فإن المطلوب من الفاعلين السياسيين أن ينظروا إليها باعتبارها مكسبا لهوية البلاد الحضارية و دعما لتماسك نسيجها المجتمعي العام.
و يسترسل الاستاذ الدمني قائلا: "و ليت السلطة تقتنع بأنه لا بديل عن ترشيد الصحوة و تشريك كل ذوي الكفاءة العلمية و الخُلُق الكريم في ذلك، دون الالتفات إلى انتمائهم الحزبي أو ولائهم السياسي. و لا يخفى ما للمسجد و للإعلام الحر من دور رائد في هذا المضمار. و حبذا لو أُتبِع قرارُ بث "إذاعة الزيتونة للقرآن الكريم"، الذي كان خطوة في الاتجاه الصحيح، بخطوات أخرى على ذات الدرب، تكون كفيلة بإخراج مساجدنا من العطالة الحضارية، و تمكينها من أداء وظيفتها الاجتماعية على وجه أكمل، تحفيظا لكلام الله و تربيةً للأجيال و ترشيدا لعلاقتهم بدينهم و دنياهم.
"فأن تكون لنا صحوة دينية راشدة و قائمة بالقسط، لا يتعارض لدي أبنائها الولاءُ لله مع الولاء للوطن، هو أفصل ألف مرة من أن يكون أبناء هذه الصحوة عصاميين لا دليل يهديهم، و شتاتا لا راية تجمعهم، فيظلون بذلك عرضة للاستقطاب من قِبل تنظيمات عالمية متربصة قد تزج بهم في أتون مغامرات عنيفة لا يعلم عقباها إلا الله"
و يقول الأستاذ الدمني " لا بد من التوضيح ابتداء أن البحث في علاقة الإسلام بالحداثة يحتاج إلى تدقيق لا بد منه: فلو استندنا إلى الحديث النبوي القائل: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أخرجه أبو داود في الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة)، و استأنسنا بمضمون الأثر الذي مفاده: "رحم الله امرئا عرف زمانه ثم استقام"، لقلنا جازمين إن صلاح الدين و الدنيا معا يتطلب الانخراط في حداثةٍ ما. (و لست أعني بالدين رسالة السماء - فهذه كاملة و خاتمة لما سبقها- و إنما أعني به تمثل تلك الرسالة من قِبل الناس في التاريخ، أو ما يمكن أن نسميه بالتدين).
و هنا ينهي الاستاذ الدمني حديثه فيقول : "إلا أن الحداثة التي نقصد، من وجه آخر، ليست حالة جاهزة أعدها لنا الآخرون – أعني الغرب – على هيأة نهائية و مكتملة، بحيث لا يزيد دورنا إزاءها على استهلاك منتجاتها و أداء واجب الاحترام و التقديس لقيمها. فلو كان الأمر كذلك، لاقتصر دورنا في التاريخ على التأسي بالغرب و اتباع مسيرته الحضارية "شبرا بشبر و ذراعا بذراع" من غير إضافة و لا إبداع، و لوقعنا بالتالي في عكس مقتضى الحداثة ذاتها من أكثر من وجه."
كيف التوفيق بين نداء الداخل المهمش والدعوة للعودة : أما آخرين في المهجر فهم في ندائهم ينادون " لن نتحدث في هذا النداء عن كارثة الاستبداد التي ابتليت بها بلادنا ولا عن المظالم التي سلطها على عموم أفراد الشعب، تكميما للأفواه وانتهاكا للأعراض وتضييقا للأرزاق ومصادرة للأملاك، فذلك أمر مفروغ منه لا يجادل فيه وطني صادق، ثم إن المجال لا يتسع إليه هنا.
ما أردنا التنبيه إليه هو مسؤولية المهجرين أنفسهم عن طول محنتهم وعجزهم عن تحويلها قضية حقوقية وسياسية وطنية تزيد في فضح ممارسات النظام وادعاءاته الكاذبة في مجال الحريات واحترام حقوق الإنسان. سياسة مقصودة أم قعود آثم، احتمالان اثنان لا ثالث لهما. لقد أستقر لدى كثير منا أن ليس لنا من مخرج من بحر ظلمات المنفى سوى الركوع في انتظارالعفو من صاحب العفو.
محمد شمام يعلن توبته إلى الله واعتذاره إلى كل المتضررين : و هكذا فقد بادرالأخ محمد شمام بالتوبة إلى الله من كل الذنوب والأخطاء التي بدرت منه أوارتكبها، ما علم منها وما لم يعلم، ما كان واعيا بها أو غافلا عنها ، خاصة ما تعلق منها بمحنة التسعينات. هذا بالإجمال ما هو مطلوب منه ومن غيره من زمان، وبالتفصيل ها هويقول :
"اقتناعا مني بما تقدم ورغبة مني في أن أكون أول المبادرين وأول التائبين أعلن على الملإ أني أستغفر الله وأتوب إليه من كل ذنوبي ما علمت منها وما لم أعلم، وأعلن استعدادي لتصحيح أخطائي ما بان لي أنها كذلك، وأعتذر لكل من أخطأت في حقه أو تسببت له في ضرر أو ناله بسببي أذى ، وخاصة:
"أولا: لأولئك المتضررين من العائلات وغيرهم الذين طالتهم هذه المعامع واكتووا بنار الصراع، من غير أن يكون لهم أي يد فيه ، غير أنهم كانوا أناسا طيبين في دوائرنا ولهم علاقات بنا، أو كانوا من أقاربنا وأهالينا وأصدقائنا، أو كانوا متدينين، أو أبت عليهم قيم الشهامة والرجولة إلا أن يؤدوا بعض ما عليهم... فنالهم بسبب ذلك ما نالهم.
"ثانيا: ثم لإخواني بالمعنى الواسع البعيد منهم الآن والقريب الذين خضنا معا المحنة التونسية، أعتذر لهم بقدر ما وقع مني من أخطاء وأنا في المسؤولية أو خارجها.
"ثالثا: ثم لكافة التونسيين بما في ذلك أصحاب خطة تجفيف ينابيع التدين سلطة ومعارضة، فلعل شيئا بدر مني وكان خاطئا في حقهم بميزان الحق والعدل الرباني. حتى يعلم المتضررون أن ما أصابهم لم يكن من أجل طلب دنيا" انتهى النقل.
وإننا نسأل الله تعالى أن يكون ما أخلفنا الله أفضل مما أخذمنّا ونرجو أن يكون قد أخلفنا صفة الفقر إليه، والاستغناء به عما سواه والشعور بالاطمئنان إلى قضائه ورؤية تصريفه للأمور برعايته ورحمته انه بالاجابة قديرو لا حول ولا قوة الا بالله العزيز الحميد.
إن المطلوب اليوم تجاوز الخلافات السياسية في طابعها العدائي من أجل تفعيل قيمة التضامن الوطني باتجاه الاستيعاب الناجع للمشاكل والتحكم الأكثر نجاعة وسيطرة على القضايا والمعضلات المزمنة والمستفحلة
ايمانا منا بنبذ الصراع الطبقي وكذلك الصراع بين الاجيال اذ اننا نأمن بالتكامل والتكامل و التضامن بين جميع مكونات المجتمع فقيرها وغنيّها كبيرها وصغيرها القويّ فينا يحمي الضعيف والغني فينا يساعد الفقير والقويّ فينا يأخذ بيد الضعيف.
فالمطلوب، الكف عن مصادرة حق الفئات الاجتماعية المتضررة من ديناميكيات التجويع العالمية بتعزيز السياسة الاجتماعية وتطوير آلياتها التضامنية وتوسيع مظلتها الحمائية وتنويع أشكالها بالقطع مع الخطاب الحزبوي لأنه لا يليق بشعب يحب الحياة ولنفتح المجال لخطاب تضامني يصالح بين المجتمع والدولة ويجمع الطاقات في مواجهة التحديات.
أحداث الحوض المنجمي: إنّ الأحداث الأليمة التي حصلت بمدينة الرديف يوم الجمعة 6 جوان 2008 والتي عمدت فيها قوات الأمن الى إطلاق الرصاص على مجموعة من المتظاهرين ترتب عليه قتيل و عديد من الجرحى وإيقاف العديد من الشباب العاطلين . هذا وقد بدأت حركة الاحتجاج هذه منذ أشهر باعتصامات ومظاهرات متفرقة بالجهة التي تعرف بالحوض المنجمي لغناها بالفوسفات وتضم مدن الرديف وأم العرائس والمظيلة والمتلوي.
واننا نغتنم هذه الفرصة الأليمة لكي نجدّد رفضنا لهذا الأسلوب في التعامل مع المحتجين الذين من حقّهم التعبيربالوسائل السلمية عن رفضهم لسياسة التهميش ولعدم اخذهم نصيبهم في توزيع الثروة. كما ندعو الجميع الى استبعاد التوظيف السياسي للحالة الاجتماعية الخانقة التي تمرّ بها البلاد.
و نقدّم أحرّ تعازينا ومواساتاتنا لأهالي الضحايا و ندعو بالمناسبة السلطة العمومية الى ضبط النفس و حل مشاكل شباب الجهة بتوخي أسلوب الحوار وتشريك كافة طاقات البلاد دون تمييزاو استثناء.والى فتح تحقيق لتحديد المسؤوليات عن هذه الأحداث الأليمة كي لا تتجدّد.
في مدينة الرديف شيّع أهاليها رجالا و نساء و أطفالا مساء يوم السبت 7 جوان 2008 جثمان الشاب الحفناوي بن رضا بن الحفناوي المغزاوي إلى مثواه الأخير في هدوء تام و في غياب كلي لقوات البوليس ، و كانت مجموعة من الجيش الوطني تراقب سير الجنازة عن بعد ، و قد ردد المشيعون شعارات '' لا إله إلا الله و الشهيد حبيب الله '' و '' يا شهيد ارتاح ارتاح سنواصل الكفاح '' طيلة المسافة الفاصلة بين مدينة الرديف و المقبرة التي تبعد عنها نحو ثلاثة كيلومترات و قد شارك في هذه الجنازة زهاء الخمسة آلاف مواطن.
و قد أكد الطبيب الشرعي الدكتور الزين سعد الذي عاين جثة القتيل الحفناوي بن رضا بن الحفناوي المغزاوي الذي قتل برصاص البوليس يوم الجمعة 6 جوان 2008 أن القتيل قد توفي نتيجة إصابته بالذخيرة الحية.
وقد انتظمت مسيرة سلمية صباح يوم السبت 7 جوان 2008 تدخلت فيها مجموعة من عناصر الجيش الوطني توسطت بين الجموع الغفيرة و قوات البوليس التي انسحب نصفها خارج المدينة بينما اشتبك عدد صغير من الشبان على أطراف مدينة الرديف مع قوات البوليس و قد نتج عن ذلك إصابة الشاب ابراهيم بن الهادي الفجراوي برصاصة في لوحة كتفه من الخلف نقل على إثرها إلى المستشفى المحلي بمدينة الرديف.
وقد اعرب "الاتحاد العام التونسي للشغل" والاحزاب المعارضة التونسية عن القلق ازاء اعمال العنف في منطقة المناجم في قفصة (350 كلم جنوب غرب العاصمة) التي شهدت مواجهات بين متظاهرين وقوات الامن اوقعت قتيلا والعديد من الجرحى الجمعة في مدينة الرديف.
وأعرب اتحاد النقابات التونسية عن "بالغ قلقه" ازاء الظروف الاجتماعية في منطقة الحوض المنجمي ودعا الى "تساوي الفرص" امام العاطلين من اصحاب الشهادات العلمية. وأضاف ان "حل النزاعات الاجتماعية يجب ان يتم بدون اللجوء الى العنف وعبر الحوار وبمشاركة جميع الاطراف" في اشارة الى المواجهات على خلفية البطالة والمطالب الاجتماعية التي ادت الى تدخل الجيش لاعادة الهدوء الى الرديف.
كما دعا الاتحاد العام التونسي للشغل الى الافراج عن الاشخاص الموقوفين بهدف اتاحة البدء في "حوار جدي ومسؤول حول العمل وسبل تقليص التوتر" الاجتماعي.
من جانبها اكدت احزاب المعارضة البرلمانية رفضها العنف ودعت الى "تعزيز الاستقرار والامن والسلم الاجتماعي". وندد "حزب الوحدة الشعبية" ب"كافة اشكال العنف" مؤكدا "اهمية الحوار لتهدئة التوتر".
وأعربت "حركة الديموقراطيين الاشتراكيين" عن "تفهمها لتطلعات سكان الرديف الى تحسين اوضاعهم الاجتماعية"، مؤكدة ضرورة "استبعاد كافة اشكال العنف".
من جانبه دعا "الحزب الاجتماعي الليبرالي" الى "المزيد من الديموقراطية في الجهات" مؤكدا ان "النقد والاحتجاج من الحقوق المدنية الاساسية". واضاف ان "المطالب مهما كانت شرعيتها لا تجيز لاصحابها خرق القانون ولا تهديد السلم الاهلي".
أما المعارضة، فقد نددت باللجوء "غير المبرر للحلول الامنية" لحل القضايا الاجتماعية لمنطقة الحوض المنجمي ودعت الى اجراء تحقيق في اعمال العنف التي اوقعت قتيلا و28 جريحا، بحسب مصادر نقابية.
وندد "حزب التجديد" (الشيوعي سابقا) وتشكيلان يساريان اخران غير معترف بهما "باللجوء غير المبرر للحلول الامنية"، داعيا السلطات الى معالجة "انعدام التوازن بين الجهات".
أما "الحزب الديموقراطي التقدمي" فقد طالب بملاحقة قضائية لمسؤولين عن "اللجوء الى العنف ضد مواطنين عزل" والى "حوار وطني" حول البطالة.
وعاد الهدوء الى الرديف بعد انتشار قوات الجيش التونسي في هذه المدينة التي تشكل ابرز معاقل التوتر في منطقة الحوض المنجمي التي شهدت اضطرابات دورية على خلفية البطالة والاحتجاجات الاجتماعية.
هذا و قد قال الامين العام السابق للحزب التقدمي الديمقراطي والمعارض السياسي الاستاذ احمد نجيب الشابي "إن على تونس أن تسارع لاتخاذ خطوات كي تجعل نظامها السياسي منفتحا اذا ما أرادت تجنب انتشار الاضطرابات الاجتماعية".
وقال ايضا "اذا لم يكن هناك اصلاح للنظام السياسي فستكون البلاد معرضة للمخاطر." في اشارة لاعمال الشغب. وأضاف "انه انفجار اجتماعي يهدد بالانتشار الى مناطق أخرى." والشابي هو السياسي الوحيد الذي أعلن نيته الترشح للرئاسة. ودعا للحوار بين السلطة والمجتمع المدني ولمزيد من التنوع للقوى السياسية ولفتح وسائل الاعلام التونسية.
وقال الشابي بعد اجتماعه مع رئيس البرلمان الاوروبي في بروكسل "ان اصلاح النظام السياسي الخاص بالانتخابات مهم بالنسبة لتونس." وأضاف "من دون تحرير الحياة السياسية ومن دون اصلاح الاطار القانوني فان تونس ستظل في حالة أزمة." وتابع أن تونس "ستتخلف" اذا لم تجر الاصلاحات.
وانه من الحكمة ومن الوعي والفكر السديد ومن إدراك هذه اللحظة التاريخية ومن عظم المسؤولية الملقاة علينا قبل غيرنا لأننا أصحاب رسالة واصحاب قضية وعلينا بالاحتساب الى الله العلي القدير والصبر والمصابرة والمرابطة. وصدق الله العظيم اذ قال في سورة آل عمران: "يا ايها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلّكم تفلحون" (آل عمران - 200)
ان استمرارهذه الحالة المتأزمة لا تخدم الا الاستئصاليين الذين يتمعّشون من دوام الازمة السياسية في البلاد. هؤلاء هم الذين وضعوا ايديهم على جهازي الدولة والحزب الحاكم .
ونأسف ان يلتجئ البعض الى الاضراب على الطعام من اجل الحصول على جواز سفر الذي هو حقّ لكلّ مواطن بلا منّ واستجداء من احد و انا ممن يعانون من هذا الحرمانّ منذ 19ماي 1990 الا وهو حق السفر و التنقل داخل البلاد و خارجها و من الخارج إلى تونس.فالى متى يتواصل تجاهل حقوق الناس في المواطنة الكاملة الغير المنقوصة لا أكثر ولا أقلّ.
نحن نأمن و ندعو على الدوام الى المصالحة والمصارحة وفكّ الاشتباك بين الجميع والحوار وبالحوار فقط يمكننا ان نتخطى الصعاب مهما كبرت وشعارنا "يسعى بذمتهم ادناهم وهم يدا على من سواهم".
و صدق الله العظيم اذ قال في سورة آل عمران: "ولتكن منكم أمّة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" (آل عمران 104) و قال تعالى "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل:97). وللحديث بقية ان شاء الله و الله هو الهادي إلى سواء السبيل لا رب غيره و لا معبود سواه
باريس في 15 جوان 2008
بقلم : عبد السّلام بو شدّاخ، احد مؤسسي الحركة الاسلامية في تونس
المصدربريد الفجرنيوز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.