صدقت أيّها الشيخ ..ما أجمل تونس بلا مخلوع!.. نصرالدين السويلمي تتوفر للشيخ راشد الغنوشي خاصيّات كثيرة لعلّ أهمّها قدرته الفائقة في تصريف لحظات الرخاء والشدّة فهو من الذين يملكون زمام الانفعال فلا يطير لفرح ولا ينهار لأزمة ، يتدفق انفعاله بتوازن يعكس إلى حدّ بعيد طبيعته الميّالة إلى الاعتدال، طبيعة واعية بعواقب الإفراط والتفريط مدركة لمتطلبات الصف الأول منتبهة إلى أعناق القافلة المشرئبة تراقب طليعتها.. ليست لديه تلك الخطابات الإستعراضية المبهرة الصارخة لأنّه لا يبحث عن وقع المؤثرات وبراعة الأسلوب لسحر المتابع بقدر بحثه عن وقع الفكرة ومكانها من الناس، العارف بتاريخ الشيخ والمتابع لتنقلاته الأخيرة والكلمات التي ألقاها سينتبه سريعا إلى الانسجام الملفت والعلاقة الحميمة بين كلمات السبعينات وكلمات اليوم، جميل أن نكتشف أنّه لأكثر من ثلاثة عقود والتجانس التفصيلي يحكم أفكار الرجل ويُمَسّك حقباتها بتناسق بديع. عادة ما يحسن الشيخ التقاط الطرفة الهادئة الهادفة.. ففي المهدية وخلال كلمته أمام الحضور وبعد ان أثنى على مداخلة السيدة ليلى الوسلاتي أضاف "وأين ليلانا من ليلاهم "، لكن عبارته" ما أجمل تونس بلا مخلوع" كان لها وقعها المرصع بالمعاني خاصة عند أولئك الذين عانوا محنة الجنرال وتنعموا بمنحة الثوار.. نعم أيّها الشيخ كل من ذاق ويلات المخلوع، بل كل البلاد تقول "ما أجمل تونس بلا مخلوع"، ما أجمل تونس بلا ليل مفزع مشحون بالترقب والانتظار والاحتمالات المفتوحة على مصراعيها، ما أجمل تونس بدون المنبثين في الزوايا الممسكين بالجرائد المقلوبة اللاّبسين للنظارات السوداء... ما أجمل حلق الواد حين تنسحب من حبات رماله روائح البوليس وتداعب نسائم الأمان البواخر الزاحفة نحو الوطن فيرتفع منسوب الحنين،... ما أجمل مطارات تونس بدون الصراط الفاصل بين باب الطائرة والبوابات الخارجية،... ما أجمل تونس بلا جمارك تلتقطك على بعد ميل تدفع بك في غياهب الانتظار القاتل،... ما أجمل تونس بلا حواسيب تكرهنا تزج بأسمائنا في شاشتها، تدير علينا الأقداح ثم ترجمنا بشهبها الحمراء.. ما أجمل تونس حين تصبح حواسيب جماركها صديقة للبيئة،... ما أجمل تونس حين تنزع المضغة السوداء من رجال أمنها ويصبح الشرطي مبرمجا على حراسة الوطن وحماية مواطنيه. ما أجمل الإلتحام بين جماهير موّهت على الجنرال واحتضنت هويتها خبّأتها في لحمها، في جيناتها وخلاياها وبين شيخ أبى الخنوع فعضّ على ثوابته وأوصى أن تدفن معه في بلد الثلج والصقيع!!!..رافضا لهيبة الدفئ المشروط ، ما أجمل ذلك المشهد الذي يُستقبل فيه شيخ من شعبه بحفاوة بالغة بعد أن كان ولعقود محاكما، ملاحقا ومستهدفا.. لقد حملني هذا المشهد إلى أواخر الثمانينات عندما نزل الشيخ محمد الغزالي ضيفا على اتحاد الطلبة في الجزائر العاصمة قادما من قسنطينة وبعد أن أنهى المحاضرة واختلى بقيادات الاتحاد طفق يعظهم " كنت شابا ناشئا أعمل في حقل الدعوة وأخشى بطش فاروق ورجاله، فما كان إلا أن رحل فاروق المحاط بالحرس، المبجّل في قصره وبقيت أنا الشاب الأعزل!!!.. ثم أتى جمال فكنت أنشط وأحاول تحاشي بطشه ما أمكن، وما لبث أن رحل جمال بجبروته وعسكره وقوته وبقيت أنا العبد الضعيف!!.. ثم أتى السادات وكان معه ما كان من تضييق وملاحقة وأذى حتى رحل رغم أنّه المحاط بالحماية وبقيت رغم أنني أعزل وحيد!!.. لم تحمهم قوتهم من أمر الله وحمتني قوة الله من بطشهم!... فاعملوا واصبروا واحتسبوا..". واليوم يرقد الداعية في مقبرة البقيع بعد طول عمر وحسن عمل ويرقد الطاغية في مستشفى شرم الشيخ بعد طول انتهاك للأعراض والدماء والأموال، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون". فما أجمل مصر بلا فرعون، وما أجمل تونس بلا مخلوع!!..