لا يمكن لأحد أن ينكر نضال الحزب الديمقراطي التقدمي ضد الطاغية و صموده ازاء ما تعرض له من عسف و قمع و ثلب و تشويه، و هو ما جلب له الاحترام و التقدير و وفر له دعم المناضلين من مختلف التوجهات، قومية وإسلامية و يسارية و مستقلة خاصة في إطار حركة 18 أكتوبر التي كانت أنموذجا للوفاق بين التيارات المختلفة، و التي لم يقاطعها سوى الإقصائيين الذين رفضوا المشاركة في هيكل يضم اسلاميين (التجديد و الوطد و الاشتراكي اليساري و النساء الديقراطيات و اللائكيون...) و البيروقراطية النقابية التي كانت منذ 1987 في تناغم تام و انسجام كامل مع النظام. و كان بإمكان ح.د.ت. أن يواصل قيادة التحالف بعد الثورة للوصول بالبلاد الى شاطئ الأمان خلال فترة انتقالية لا مجال فيها لطرح الاختلافات الايديولوجية و مقارعة البرامج الخصوصية، و لكنه اختار الاعلان عن نهاية التحالف و الانخراط في مسار خاص به، اختلفت حوله التقييمات و لكنه اتسم بارتكاب بأخطاء و تناقضات أفضى تراكمها إلى فقدان الحزب للكثير من مصداقيته، حيث تشير آخر الاستفتاءات إلى أن شعبيته في انهيار متواصل و أن نسبة من عبروا عن نيتهم التصويت له في الانتخابات القادمة انخفضت من 14.5 بالمائة في شهر ماي إلى 9.5 بالمائة خلال شهر جوان (أي بعد انطلاق الحملة الإشهارية الضخمة) ، و هي كارثة لهذا الحزب الذي راهن عليه العديد من الوسطيين و المعتدلين و الذي أنفق الكثير "للتعريف بنفسه" ، تتطلب منه مراجعة توجهاته و مواقفه و الاستفادة من أخطائه التي يمكن حصرها في ما يلي الخطأ الأول : التخلي عن تحالف 18 أكتوبر و المسارعة بالانضمام لحكومة محمد الغنوشي دون ضمانات أو برنامج وفاقي و روزنامة واضحة و شروط حول تواجد بعض رموز العهد السابق. الخطأ الثاني: الإصرار على مواصلة الانتماء لهذه الحكومة رغم أن الاحتجاجات التي شهدتها ساحة القصبة و الضغط المسلط على حكومة الغنوشي من طرف لجنة حماية الثورة بينت بوضوح أن أيامها كانت معدودة و أن التمادي في الانتماء لها ضرب من ضروب الانتحار السياسي. و طالب الكثيرون من أنصار ح.د.ت. نجيب الشابي بالاستقالة منها أولا مسايرة للاحتجاجات و الاعتصامات الشعبية مما يمكن الحزب من استرجاع المبادرة، و ثانيا لتفادي مصير الطرد المحتوم بحل الحكومة و لكنه تشبث بموقفه إلى أن خيره الباجي قايد السبسي بين مواصلة العمل الحكومي و بالتالي الاعتزال السياسي أو الاستقالة فاختار الحل الثاني بعد أن خسر الكثير في هذه المرحلة. الخطأ الثالث: الاستبداد بالرأي حيث عبر أغلب المستقيلين من الحزب عن عدم رضاهم عن أسلوب تسييره الذي يقوم على حصر القرارات لدى الزعيم التاريخي و عدم تشريك الكوادر الوسطى في ضبط الاستراتيجيات و اختيار التوجهات ، و تساءلوا عن تجاهل ممثلي الجهات حيث لم تتم الدعوة لعقد المجلس الوطني منذ الثورة. الخطأ الرابع: التناقض في الآراء و التراجع في التقييمات: عندما اضطر نجيب الشابي للاستقالة من الحكومة عقد ندوة صحفية أشار فيها إلى أن هناك أطراف تتدخل في عمل الحكومة و تغير قراراتها و اعتبر أن الفراغ السياسي سوف يفضي إلى استيلاء الجيش على الحكم. و بعد تصريحات فرحات الراجحي المثيرة سارع الشابي إلى تفنيد فكرة وجود حكومة ظل مدعيا أنه لم يلاحظ أبدا أي تدخل في قرارات الحكومة و مؤكدا أن الجيش مؤسسة وطنية عتيدة لا يمكن لأحد أن يتصور تدخلها في الشأن السياسي (نعم هكذا ! ) الخطأ الخامس: الموقف من التجمعيين: لئن عبر العديد من الأحزاب عن استعدادهم لاحتضان الشرفاء و غير الفاسدين من التجمعيين، بما فيهم النهضة و التكتل و التجديد فإن سعي التقدمي لضمهم كان متسرعا و محموما ، ركز على المصالحة و أهمل المحاسبة، مما جعل البعض يتهمه بأنه وريث التجمع. و قد وفر له هذا الموقف إقبال بعض التجمعيين و رجال الأعمال. لكن عندما هدأت العاصفة و عاد التجمعيون للعمل و النشاط العلني و كونوا أكثر من 15 حزبا جديدا سرعان ما عادت الطيور إلى أوكارها و انخرط التجمعيون بعشرات الآلاف في أحزاب عبد المجيد شاكر و جغام و مرجان و محمد بن سعد . و لم يفد التقدمي مديحه لمحمد الغنوشي و ترحيبه بالتجمعيين، بل أصبح هدفا لحملاتهم حتى أن أحد الأحزاب استهزأ به و سماه "حزب الياغورط" في تلميح لحملته الاشهارية. الخطأ السادس: تذبذب المواقف من هيئة بن عاشور: بحكم انتمائه لحكومة الغنوشي، اتخذ التقدمي موقفا معارضا للجنة حماية الثورة التي كانت في ما بعد نواة لهيئة تحقيق أهداف الثورة و التي قبل التقدمي الانضمام لها خشية من التهميش و العزلة رغم تركيبتها غير المتوازنة و المصممة لخدمة طرف سياسي معين. و كانت مواقفه داخلها مترددة تراوحت بين مساندة الأغلبية و" اللا موقف" إلا في موضوع تاريخ الانتخابات ، مع التراجع بعد ذلك. و هذه المهادنة التي برزت في القبول بنظام انتخابي على مقاس الحلف المسيطر على الهيئة و لم يكن في مصلحة التقدمي الذي كانت له حظوظ لا يستهان بها، و بعقد جمهوري يعتبر انقلابا إستباقيا على الدستور و اعتداءا على مسألة الهوية العربية الإسلامية التي ماانفك التقدمي يؤكد على تمسكه بها، و في الموقف المخجل الذي اتخذه ح.ت.د. من موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني، و هو الذي سبق له أن وجه توبيخا لأحد أعضائه لمشاركته في ندوة بالدوحة إلى جانب و فد إسرائيلي مما تسبب في انشقاق عدد هام من كوادر الحزب، مهادنة أثارت الدهشة و الإستغراب الخطأ السابع: التركيز على حركة النهضة: حيث كثرت الاتهامات الموجهة إليها سواء في ما يتعلق ببرامجها أو خطابها و التراجع عن إلتزامتها السابقة ، بالإضافة إلى حادثة صفاقس . و يبدو أن هذه الحملة خدمت النهضة و أضرت بالتقدمي. فالناخب التونسي العادي ينبذ التطرف بمختلف أشكاله و لكنه متمسك بهويته العربية الإسلامية، و التهجم المتواصل على حركة إسلامية و غض الطرف عن المنافسين اليساريين و اللائكيين و المرتبطين بأجندات غربية يفقد صاحبه كل مصداقية. الخطأ الثامن: القيام بحملة إعلامية مستفزة: حيث انطلق ح.د.ت. في حملة يعتبرها "إعلامية" ضخمة ، لم تكن نتائجها ايجابية، غزت الساحات و احتلت مكانا بارزا في الصحف و كانت صورة الشابي و ميا الجريبي مدعاة للاستهجان لدى البعض حيث شابهت أساليب العهد السابق و ممارسات الأحزاب الديكتاتورية المشخصنة ، و استهزأ منها آخرون و تندروا ، و اعتبرها البعض دليلا على حصول الحزب على تمويلات مشبوهة مقابل خدمات و وعود لمصلحة فئات و أشخاص. أما التونسي العادي فيتساءل لماذا لم يخصص الحزب هذه الأموال لقوافل للمناطق المحرومة أو لمساعدة اللاجئين عوض تخصيصها لمساحات إشهارية مستفزة و هو ما كان سوف يفيده أكثر لدى الفئات الشعبية و الرأي العام. الخطأ التاسع: تناقض المواقف حول موعد الانتخابات: كان ح.د.ت. من أكثر الأحزاب تمسكا بتاريخ 24 جويلية خاصة و أنه كان من أكثرها جاهزية و عبر بصراحة عن رفضه لأي تأجيل. و عوض التنسيق مع الأحزاب الرافضة لموعد 16 أكتوبر كالنهضة و حزب المؤتمر، سارع بقبول مزايدة الباجي قايد السبسي على لجنة كمال الجندوبي و صرح عصام الشابي أن الموعد الجديد هو ما يرغب فيه حزبه ( و ليس بالإمكان أبدع مما كان) و هو ما يغني عن كل تعليق. الخطأ العاشر: رغم أن النظام الانتخابي الحالي لا يشجع على التحالف بين الأحزاب على الأقل في إعداد قائماتها الانتخابية فإن ذلك ضروري بعد الانتخابات سواء للدفاع عن منظومة قيمية أو عن فصول معينة في الدستور أو لتشكيل الحكومة. و بالتالي فإن التقارب و التنسيق بينها و تنظيم أنشطة مشتركة و اتخاذ مواقف موحدة في صلب هيئة بن عاشور ضروري في هذه المرحلة لتمتين العلاقات بين المتحالفين. و لئن سارعت أحزاب "الفرانكو-لائكية" بتكوين القطب الحداثي و أحزاب التجمع بتوحيد مواقفها ، و هناك تحاور بين الاسلاميين و القوميين غير البعثيين ، فإن التقدمي اختار العمل بمفرده معولا على قدراته الذاتية و لم يتفطن إلى قدرة التحالفات الأخرى على استقطاب من يعتبرهم من أنصاره. إن في الإشارة لهذه الأخطاء دعوة للتأمل و المراجعة لأنه يعز علينا أن يتهمش حزب عريق ومناضل بسبب تعنت بعض قادته أو سوء تقديرهم للأمور كما أن مصلحة بلادنا في هذا الظرف الذي كثرت فيه الفتن و المؤامرات تتطلب أن لا تؤجج الخلافات و أن لا تتسبب حمى الإنتخابات في التفرقة و الصراعات. فليبادر التقدمي بالحوار مع حلفاء الأمس (النهضة، ح.العمال الشيوعي ، الإصلاح و التنمية ) و مع أحزاب وطنية معتدلة كالوحدة الشعبية و حركة الشعب التقدمية فلا مجال للفارس المنفرد و لا قدرة لأي حزب أن يدير أمور الوطن بمفرده.