إذا كان علينا أن نشبّه محاكمة الرئيس المخلوع أول أمس الاثنين فإننا سنشبّهها بما حصل مساء 14 جانفي 2011 حين ظهر السيد محمد الغنوشي على شاشة التلفزة يُعلن توليه رئاسة الدولة استنادا إلى الفصل 56 من دستور 1959. جوهر ما فكّر فيه السيد محمد الغنوشي و المجموعة المحيطة به وقتها أن الثورة التي انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 هدفها إسقاط بن علي فقط أما المنظومة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية التي حكمت البلاد نحو ربع قرن فيجب أن تتواصل مع إدخال بعض التعديلات و الإصلاحات عليها. لذلك وُصفت تلك الخطوة أنها التفاف على الثورة ومحاولة لإجهاض مسار ثوري تشكل ميدانيا وسياسيا. كذلك الشأن بالنسبة لمحاكمة الرئيس المخلوع التي انتظر أبناء الشعب في سيدي بوزيد والقصرين والحوض المنجمي و الأحياء الفقيرة في المدن الكبرى أن تكون محاكمة تستهدف بالأساس منظومة سياسية و اقتصادية واجتماعية وثقافية تم من خلالها تسيير البلاد ولم تخلّف إلا التفقير والتفاوت الجهوي والفساد وكبت الحريات العامة والفردية ..لكنها تحولت إلى محاكمة في قضية حق عام لا تختلف عن محاكمة أي مسؤول إداري .وكأن هناك من مازال يدفع للمحافظة على المنظومة ذاتها ويحميها من أي محاكمة. إن محاكمة الرئيس المخلوع لا يمكن أن تكون مفصولة عن الشعارات التي رفعها الشعب أيام الثورة ولا يمكن أن تكون في مسار غير مسار التغيير الذي انطلقت فيه البلاد. من الشعارات المركزية التي رُفعت في الثورة شعار " التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" وهو شعار بمثابة اتهام صريح لنظام الرئيس المخلوع في خياراته التنموية والاقتصادية وما بلغه من فساد .وكان من المفروض أن يمثل قاعدة محاكمة الرئيس المخلوع استجابة لتلك الحناجر التي رفعته طويلا .لكن محاكمة أول أمس حادت عنه وأهملته . ومن الشعارات التي رفعت أيام الثورة أيضا " الشعب يريد إسقاط النظام" وليس "الشعب يريد إسقاط بن علي ".إسقاط النظام السياسي والاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي الذي حكم به بن علي .وهو شعار كان أيضا من المفروض أن يكون قاعدة أساسية في المحاكمة ..غير أن هناك من يريد أن لا يسقط النظام . ومن المفارقات انه في الوقت الذي يُحاكم فيه بن علي في قضايا حق عام ..كان هو يدافع عن نظامه و عن "المكاسب التي حققها للبلاد " في فترة حكمه .كان يدافع عن خياراته .ظهر ذلك من خلال الرسالة التي نشرها محاميه اللبناني و التي خصص جزء هاما منها لما أنجز في عهده..لأنه كان يعتقد انه سيحاكم في ذلك الاتجاه . إن محاكمة الرئيس بن علي بالطريقة التي تمت بها أول أمس لا يمكن أن تكون إلا محاولة جديدة للالتفاف على الثورة شأنها شأن محاولة السيد محمد الغنوشي تولي منصب رئاسة الدولة.