سوف لن أتحدّث بلغة الأرقام و النسب التي أثبت الواقع أنّها ليست سوى مغالطات قدّمتها للأسف الشديد منظّمات محليّة و عالميّة خدمة للنظام السابق. سأنطلق فقط من طرفة قيل إنّ قائدا عربيّا مجاورا لنا يرويها عن بلدنا منذ عقود، هذه الطرفة تقول إنّ تونس من أغنى دول العالم و ستبقى غنيّة و الدليل على ذلك أنّها لم تفلس رغم كثرة السارقين الذين نهبوها. [انتهت الطرفة]. واقع الأمر يدعونا حقيقة إلى تصديق هذه النكتة و هي مؤلمة أكثر من كونها مضحكة، خاصّة بعد أن اكتشف الشعب التونسيّ حجم الثروات التي هرّبت إلى الخارج بواسطة بن علي و أصهاره. حجم يبدو أنّ حصره عدّا و إحصاء سيتأخّر قليلا لأنّنا مازلنا نحصي البلدان التي وزّعت فيها تلك الثروة، بلدان تشمل على كلّ حال جميع القارّات فاعلم أيّها الشعب التونسيّ أنّ ثروتك قامت برحلة حول العالم و قُوت أبنائك لم يسافر إلى سويسرا و فرنسا فقط بل طار إلى بلدان الخليج و أمريكا اللاتينيّة و دول إفريقيّة جنوب الصحراء حيث دخلت في مشاريع استثماريّة... حين انطلقت التحقيقات، صدمتنا جميعا صورة الرزم التي وجدوها في إحدى قصور المخلوع، و ظنّ السذّج منّا أنّ أموالنا و الحمد لله في أمان، و اعتقد البعض الآخر أنّ ذلك المبلغ يمثّل كنزا عظيما، و لكنّ الأيام أثبتت حجم بساطتنا و في نفس الوقت حجم فقرنا لأنّ ما ظهر لنا كنزا لم يكن إلاّ مصروف جيب لبن علي و أسرته الكريمة، أمّا المليارات و الكنوز الحقيقيّة فقد نهبت بشكل منظّم و استقرّت في عشرات البنوك في أرصدة إسميّة و أخرى رقميّة. المسألة الثانية التي أبهجت الشعب التونسيّ الفقير أنّ دولا كثيرة أعلنت تجميدها لأرصدة المخلوع و آخرها مصر و الإمارات و قطر، وأوّلها سويسرا و فرنسا. لكنّ التجميد لا يعني استرجاع الأموال بسرعة، فالطريق مازالت طويلة و شاقّة قبل الظفر بملّيم واحد، و سويسرا التي تخفي عنا حجم الأموال الموجودة في بنوكها تماطل و ترفض أن تزّودنا بالمعلومات فما بالك بالمليارات، و هي لا تجد حرجا من إعلان تخوّفها على مصالحها مع العصابات الحاكمة في البلدان الأخرى إن هي سلّمتنا الكنز، و عليه فهي غير مستعدّة لتعاون بنّاء مع المنظّمات و الهيئات التي توجّهت إليها مطالبة باسترجاع أموال الشعب المنهوبة. فلا تحلم كثيرا أيّها الشعب الفقير! و إنْ كنت ستحزن فإنّ في الأخبار ما يسلّي فمن المضحكات حقّا أنّ سويسرا نفسها استرجعت تحويلا ماليا بقيمة مليون و700 ألف دولار تمّ لفائدة الدولة الليبية في حساب بنكي بألمانيا، وذلك في إطار تسوية لملف رجل الأعمال السويسري الذي احتجز بطرابلس لمدة سنتين. وأوضحت سويسرا أن عملية استرجاع المبلغ تمت بتنسيق بين وزارة خارجيتها ونظيرتها الألمانية. و هنا نلاحظ سرعة الإجراء و نجاعة التعاون، و الأمر معقول و مفهوم إذْ كان التعاون بين دولتين أوروبيّتين! و المفهوم الآخر من كلّ ما تقدّم أنّ تونس كانت حقّا غنيّة و ستظلّ و لكنّ الثروة ستذهب ربّما و كالعادة إلى قلّة من العائلات التي تتجدّد بتجدّد من يحكمنا. ينتابنا شعور قويّ أنّ الأموال المنهوبة لم تكن فقط على حساب النهوض بتعليمنا و صحّتنا و البنى التحتيّة لكلّ شبر من وطننا بل كانت أيضا على حساب قوتنا اليوميّ و ملبسنا و رغد العيش الذي كان يمكن ضمانه لكلّ فرد من أفراد هذا الشعب الذي لا يعدّ بعشرات الملايين مثلما هو موجود في البلدان الشقيقة. إنّنا عشرة ملايين ساكن، أقلّ بالنصف من سكّان القاهرة و لا نساوي شيئا بالنسبة إلى الصين أو الهند، فلماذا كلّ هذا الفقر الذي نسمع به. لماذا يشكو التونسيّ من فواتير الكهرباء و الغاز و الهاتف و الماء. هل تصدّقون أنّ من بين مطالب الهيئة المحلّيّة لحماية الثورة في جزيرة قرقنة أثناء مفاوضاتها مع شركة بريتش غاز هي أن تتولّى الشركة تسديد فواتير الكهرباء لسكّان الجزيرة ؟ إنّها مطالب ساذجة و لكنّها تعكس حجم الفقر الذي وصل إليه الناس في بلدنا حتّى أصبحوا يحلمون بمن يسدّد عنهم مجرّد فاتورة منتفخة رغم أنّهم قد لا يستعملون المكيّف! مسكين أنت أيّها الشعب الفقير، فقد سرقوا أموالك التي كانت ستوفّر لك العلاج المجانيّ و التعليم الجيّد و النقل المريح و العيش الكريم. خطّطوا لينهبوا ثرواتك و صوّروا لك الفقر كأنّه قدر من الله فاستفق الآن فأنت تعيش في بلد غنيّ جدّا. تعلّم كيف تغيّر مطالبك و اطمح مثلا للسفر إلى بلدان العالم للسياحة مرّة في السنة كما يفعل فقراء أوروبا، و احلم بأن يكون لك سيّارة تغيّرها بعد سنوات قليلة، و بيت لائق تمتلكه دون أن تكرّس كلّ حياتك المهنيّة لتسديد قرض مشطّ. قف من الآن فصاعدا في وجه من يسرق أموالك، حتّى لا تبقى شعبا فقيرا في دولة غنيّة.