د. محمد عمار درين(شاهد الناصح) إن من المكاسب المهمة التي هيأتها الثورة في تونس، وفي غيرها من البلدان، تلك الحركة الفكرية النشطة، وذلك السجال الذي لا يكاد يخفت حتى يزداد شدة. ومع التسليم بإيجابية هذه الحركة، التي حال دونها في عهود سابقة هيمنة الفكر الواحد، وتغييب الرأي الآخر قسراً، بالاعتماد على قوة القهر والغلبة، فإن ذلك لا يمنع تسجيل الملحوظات الآتية: أولا:ً قد يتبادر إلى ذهن المتأمل في هذه السجالات، أنها جديدة كل الجدة في قضاياها وفي أساليبها، والحقيقة خلاف ذلك، حيث عاشت تونس كلما أتيحت لها فسحة من الحرية صغيرة كانت أو كبيرة، أجواء شبيهة بما تمر به الآن. بل إن مَنْ يستعرض القضايا التي طرحت في نهاية 1987 والعام التالي له، ليدرك أن الأمر لا يعدو كونه إعادة تناول لأغلب القضايا التي طرحت حينها وفي أوقات أخرى متباعدة، مما لم يتح لتونس – مع الأسف الشديد- إرساء تقاليد حوارية حضارية بين المختلفين فكريا إلا في حدودها الدنيا. ثانياً: إن المتأمل في أساليب هذه السجالات، يستوقفه غلبة الأسلوب الاستفزازي الذي لا يبالي بالاستدلال بالحجة ونقيضها، للانتصار لفكرته، مما يوحي بأن همّ المتحاورين في كثير من الأحيان هو تقرير ما لديهم من آراء مسبقة، سواء نهض الدليل لإثباتها أم لا. كما يستوقفه كثرة المجازفات الفكرية التي لا يكاد يسندها دليل علمي، إضافة إلى الاعتقاد –المستبطن حينا والمصرح به أحيانا أخرى- بأن تونس تتفرد بمثل القضايا، في حين إنها قضايا تشترك فيها مع أغلب – إن لم يكن كل- البلدان العربية الأخرى. هذا فضلا على غلبة التناول التسطيحي لقضايا تهم حاضر المجتمع ومستقبله، خاصة في الحوارات التلفزية، التي يغلب عليها الاستفزاز ويضَحَّى فيها بالفكر، والتناول الموضوعي للقضايا. لهذه الأسباب ولغيرها، ولتذكير الأجيال الجديدة بكسب السابقين، الذين كانت لهم قدم سبق في تناول كثير مما يطرح الآن من القضايا، فقد عزمنا على نشر سلسة علمية تقوم على اختيار نصوص لكتاب تونسيين وغيرهم، تناولت قضايا ليست بعيدة في توصيفها ومعالجاتها عما يطرح الآن. وسنركز في كل حلقة من حلقات هذه السلسة على قضية من هذه القضايا المهمة، مثل: هوية البلاد، والعلمانية واللائكية، وعلاقة الدين بالدولة، والحريات، ووضع المرأة، وعلاقة الدين بالفن... وغير ذلك من القضايا المهمة التي يدور حولها السجال، وسندع هذه النصوص المختارة تتحدث بنفسها، ولن نتدخل بالتعليق إلا عندما يتراءى لنا أن التدخل ضروري. والتزاما بالأمانة العلمية، فسنوثق كل نص توثيقا كاملا. على أننا قد نلجأ أحيانا لاختصار النص إذا كان ذلك ضروريا، على أن لا يكون ذلك ضارا بالفكرة. وأول نص نقترحه على القارئ الكريم في هذه السلسلة، له صلة بموضوع الهوية، خطه المؤرخ التونسي المعروف، الأستاذ حسن حسني عبدالوهاب – رحمه الله-، في كتابه: (ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية، القسم الأول، ص39-43، الناشر: مكتبة المنار، تونس، 1965م)، يتناول فيه بالدرس موضوع التمدن العمراني الذي ورثه العرب المسلمون عن الأقوام السابقين من البربر – السكان الأصليين للبلاد- ثم الفينيقيين، فالرومان، فالوندال، فالروم البيزنطيين. وعنوان هذا النص: العمران العربي في تونس ... وأول سؤال يتبادر لذهن الباحث هو ماذا وجد العرب أمامهم من العمران السالف في المدائن الكبيرة بإفريقية؟ ولا بد هنا من التعرض إلى الحالة التي كانت عليها هذه البلاد في العصر الرومي البيزنطي. لا مراء أن العرب لم يجدوا في البلاد من المدائن التي تستحق الذكر سوى مدينة قرطاجنة – عاصمة القطر من عهد الفينيقيين، فالرومان، فالوندال، فالروم البيزنطيين- ومن يتتبع تاريخ استيلاء الروم عليها يرى أن قرطاجنة لم تكن عند ظهور العرب إلا عاصمة تزلزت أركانها، وزالت عنها النضارة القديمة وروعتها، ولم يبق بها من المعالم الجليلة الوارد خبرها في كتب الإغريق واللاطين سوى ظل متقلص، وبقية تافهة من الزخرف التالد التي كانت عليه، وسبب ذلك الحروب والفتن المتوالية عليها مدى عصور مضتْ، وقرون خلتْ، ولم يبق بها من سكانها غير حثالة صغيرة لا عبرة بها، تعيش متحصّنة بقلاعها القديمة، وتعمل في ظل أسوارها المنيعة التي حاربت الدهر، وبقيت سيّاجا حافظاً لها من غارة المهاجمين. وما عدى قرطاجنة، ماذا كان في البلاد؟ لا شيء يذكر من المدائن العظيمة، بل كنتَ ترى قرى مزجاةً متفرقة هنا وهناك، ضعيفة المبنى، قليلة المساكن، اللهم إلا ما يقال عن بقية باقية في سوسة (حضرموت)، وقفصة وتبسة، وفيما سوى ذلك فبعض الحصون المتلاشية في البراري من بقايا آثار الرومان، أعاد الروم ترميمها مدة عز دولتهم باستعمال ما تيسّر من أنقاض المعالم الرومانية الشامخة. ولم يكن الروم ليتوقفوا عن هدم هياكل الرومان وقصورهم لترقيع القلاع والحصون التي شيدوها بسرعة لرد العصابات البربرية المناوئة لهم، واتقاء هجوماتهم. فمتى وجدتَ في البلاد مسرحا قديما منهدم الجوانب، أو معبدا مندكّ العرصات، أو هيكلا منتقض الأركان، فاجزم بأن معاول الجيوش البيزنطية عملت فيه وقوضته للغرض الذي ذكرنا. وعبثا يحاول بعض المغرضين من كتاب الإفرنج اليوم إظهار البلاد التونسية في مظهر العمران الزاخر، والزخرف البديع، وغزارة التمدن قبيل قدوم العرب وحين استيلائهم على إفريقية، فالتاريخ – وخصوصاً علم الآثار- يكذبان هذه الدعوى الملفقة، وما هي في الواقع إلا ترهات زائفة حمل كتاب الإفرنج على محاولتها ليثبتوا بها أن ماضي إفريقية الروماني الزاهر أصبح بعد الفتح العربي أثرا بعد عين. والحقيقة التي لا يطرقها شك، ولا يعتريها وهم هو أن العرب لما قدموا فاتحين لم يجدوا في البلاد سوى خرائب متهدمة تعلوها مسحة من زخرف قديم أبلاه الدهر، وغيّر نضارتَه الزمانُ، لتعاقب الفتن، وتوالي المِحَن، ولم يصيبوا غير مدائن – مثل جلّولا وغيرها- متداعية البنيان، نزرة السكان، ضعيفة الإيراد بالنسبة للعهد الروماني غير منتظمة ولا متآلفة الهيئة. ولهذا السبب نفسه لم يفكر العرب في نصب مركزهم الذي عزموا على إيجاده في البلاد المفتوحة على أنقاض إحدى تلك المدائن البالية، وقد يصعب على الإنسان إيجاد الجديد بترقيع القديم، بل إنهم صمّموا على إحداث مدينة مستقلة في مركز لم يسبقهم أحد بالعمران فيه، وهذا ما حمل القائد عقبة بن نافع وأصحابه على تأسيس معسكرهم في وسط غيضة مشتبكة ذات أشجار وأحراج، فأنشأوا فيها (قيروانهم الخالد). ... فلو كانت في البلاد عاصمة قديمة تناسب الفاتحين لما ارتادوا سواها، كما فعلوا بدمشق في الشام، وطليطلة ثم قرطبة بالأندلس. ويؤيد نظريتنا في خلو البلاد من الأمصار ذات الشأن اعتناء العرب بعد فتحهم بإحداث مدائن لم تكن موجودة اسما ولا رسما، مثل: تونس وصفاقس والمهدية. وهنا نتوقع معارضة ناقد ينكر علينا صحة ما ذهبنا إليه، لما تعلق بذهنه من غزارة عمران إفريقية على عهد الرومان، ولا سيما ما تمليه عليه عواطفه اللاطينية وحنينه إلى آثار ذلك الزمان الغابر، فنقول لذلك الناقد: ليس الأمر من باب العاطفة أو الوجدان، وإنما هو رجوع إلى قواعد العمران، وتأييد لما أثبته التاريخ وعلم الآثار، وليست نظريتنا من باب المجازفة، أو رغبة في إظهار مزايا العرب، ولكن اتباعا للحق، وعملا بأصول التاريخ. (يتبع: في الحلقة القادمة نص آخر في موضوع مهم) يسرني تلقي ملحوظات القراء الكرام على العنوان الإلكتروني: [email protected]