بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ردّا على شهادات وزراء بورقيبة التي تبرئ المسؤول وتطمس الحقيقة: بورقيبة اعتذر للمساجين السياسيين واعترف بخطإ الدولة في حقّهم
نشر في السياسية يوم 01 - 06 - 2009

هل صحيح أنّ مجمل ما كتب وما قيل عن الفترة البورقيبيّة يدخل تحت خانة تبرئة الذمة مع التاريخ وتصفية حسابات الماضي مع الخصوم؟
بقلم: أبو السعود الحميدي
تكاثرت شهادات الوزراء والمسؤولين السابقين في العهد البورقيبي. ورغم ما يمكن أن يقال حول الدوافع والأهداف من وراء هذه الكتب والتأليف والحوارات الصحفية، فإن ترسخ هذا التقليد يعتبر عنصرا إيجابيا في الحياة العامة من شأنه أن يميط اللثام عن عديد الملابسات التي أحاطت بالعمل السياسي في تونس في مراحل كان الحوار ضيقا وتقاليد المكاشفة شحيحة.
الحوار الصحفي الذي أجراه الأكاديمي والإعلامي حاتم النقاطي مع الوزير السابق السيد الباجي قائد السبسي وصدر في جريدة «الشروق» يوم الاربعاء 17 6 2009 لفت انتباهي وجعلني مدفوعا إلى تدوين هذه الخواطر التي أردتها أن تتجاوز التفاعل مع أجوبته وآرائه المنشورة هنا وهناك، إلى مجمل ما يكتب عن تاريخ تونس الحديث وخصوصا من الاستقلال إلى تغيير السابع من نوفمبر 1987 .
أولا: ان مجمل ما كتب وما قيل يمكن أن يدخل تحت خانة تبرئة الذمة مع التاريخ وتصفية حسابات الماضي مع الخصوم ومحاولة وضع مسافة بين الزعيم بورقيبة والاختيارات الخاطئة (القمع، الجهوية الضيقة، الاختيارات التنموية غير المجدية، العلاقة المتعرجة والمكلفة مع الحوار الاقليمي.. الخ..) وقد رأينا في هذا السياق أحمد بن صالح يتهم الهادي نويرة وأحمد المستيري، والطاهر بلخوجة يتهم محمد الصياح ومزالي يتهم عاشور ووسيلة، والباجي قائد السبسي يتهم سعيدة ساسي وغير ذلك كثير.
ثانيا: ان التقسيم الذي اعتمده أصحاب الشهادات رغم أهميته يضيق مجال التفكير في القضايا الجوهرية للفكر السياسي التونسي: حيث يقسمون الطاقم السياسي منذ الاستقلال إلى أخيار وأشرار وكل واحد منهم يضع نفسه مع نزر قليل من أترابه في خانة الأخيار، والبقية تكون في الخانة المقابلة، في حين أن غزارة تجربتهم ونضجهم مع مرور الزمن من المفروض أن يجعلهم يطرحون على أنفسهم الأسئلة الجوهرية التالية: ما هي الأرضية ومجمل العوامل التي جعلت النظام التونسي لا يقدم على انفتاح سياسي جدي رغم الكلفة المنخفضة سياسيا على مستوى الوطن في بعض المنعرجات (1969 1970 ثم 1980 على الأقل). ثم ما هي الأرضية ومجمل العوامل التي دفعت حركات المعارضة الشبابية إلى التطرف الذي كان وبالا عليها وعلى باقي حركات المعارضة المعتدلة؟ لماذا كنا نرى وإلى حدود حرب الخليج الثانية (1991) بعض المجتمعات المحافظة تنزع نحو نوع من الليبرالية في حين أن مجتمعا كالمجتمع التونسي بدأ يقبل تيارات دينية محافظة في صلبه، تعلن استعدادها للنيل من مكاسبه الحقيقية (التي كانت ثمرة لنضالات خاضتها نخبه عبر أجيال) وقبلها نسيجه بحماسة واقتناع؟ لماذا كان دفاع الدولة التونسية من ناحية والمجتمع التونسي من ناحية أخرى على المكاسب التقدمية وقيم الحداثة في تونس خطين لا يلتقيان إلا قليلا؟ وماذا لو وجدت صيغة لقاء استراتيجي بين خطي الدفاع المذكورين؟
هذه الأسئلة إذن لا نجد لها صدى في شهادات المسؤولين السابقين وكأن مستقبل تونس، المرتبط إلى حد كبير بالاجابة الواضحة والصريحة على هذه الأسئلة، لا يعنيهم.
ثالثا: ثلاثة مسؤولين ارتبطت مسيرتهم بالقضايا الأمنية والسياسية ونعني بهم السادة محمد مزالي والطاهر بلخوجة والباجي قائد السبسي أرادوا التأكيد كل من موقعه وفي المناسبات التي أتيحت له أنهم سعوا إلى تجسيد الانفتاح والديمقراطية في البلاد. وقدموا على ذلك أمثلة عديدة: السيد محمد مزالي دشن توليه الوزارة الأولى بانفتاح وإخلاء للسجون واعتراف بالأحزاب السياسية وتنظيم أول انتخابات تعددية بعد ستينات القرن العشرين، السيد الطاهر بلخوجة يعتبر ان الإصلاحات التي أدخلها على أجهزة الأمن منذ توليه إدارة الأمن الوطني سنة 1967 ووزارة الداخلية سنة 1973 أدخلت هذه الأجهزة في سياق مهني حضاري شبيه بمثيلاتها في البلدان المتقدمة، فضلا عن حرصه على تطوير الإعلام والخطاب السياسي خلال السبعينات والسنوات الأولى من الثمانينات، والسيد الباجي قائد السبسي يؤكد من جانبه أنه تصدى لدكتاتورية الممارسات السياسية داخل الحزب الواحد في سنة 1971 وأطرد من الحزب في سنة 1974 ولم يعد إليه إلا في سياق جديد انفتاحي سنة 1980 .
رابعا: ثلاثتهم لا يتناولون تجربتهم السياسية في شمولها بسلبياتها وإيجابياتها وحتى وإن تناولوا السلبيات فينسبونها إلى الخصوم (الأشرار) أو يهملونها أصلا. إذ ان السيد محمد مزالي يتوسع في استعراض تجربته سنوات 1980 و1981 و1983 ويتناسى الجوانب السلبية أو يتنصل من مسؤوليته عنها خلال سنوات 1984 1986 . والسيد الباجي قائد السبسي لا يستعرض تجربته في إدارة الأمن الوطني ووزارة الداخلية خلال الستينات، وماذا كانت ملاحظاته وهو المسؤول عن السجون على معاملة المحكوم عليهم في مؤامرة 1962 منذ ايقافهم إلى تاريخ إطلاق سراحهم.
وماذا يقول السيد الطاهر بلخوجة وهو الذي أكسب أجهزة الأمن المهنية الضرورية وسعى إلى تطوير الحياة السياسية في إطار التطور الذي تشهده المجتمعات المتقدمة التي تتشبه بها وحرصها على الاقتصاد في العنف ماذا يقول السيد الطاهر بلخوجة في إيقاف تنظيم حركة الوحدة الشعبية في 1977 والتي جرت خارج سياق التطور الايجابي الذي يطنب في الحديث عنه منذ توليه وزارة الداخلية والحال ان الديمقراطيين الاشتراكيين (والذين تطوروا لاحقا إلى حركة الديمقراطيين الاشتراكيين) كانوا ينشطون بنفس الأساليب ولم يمسسهم سوء.
إننا لا يمكن أن نفسر هذه الايقافات والمحاكمة وحتى الاكراه الذي تحدث عنه المعنيون في انتزاع اعترافات منهم لا يمكن أن يكون خارج تصفية الحسابات الشخصية مع تيار أحمد بن صالح الذي ناصبه السيد الطاهر بلخوجة العداء منذ بداية الستينات.
خامسا: هذه النقائص في تناول الوقائع السياسية (ومنها الملف الأمني السياسي) لا نعزوه بالكامل إلى سوء نية المعنيين، ولكن إلى اجتزاء في تناول هذه القضية التي هي على قدر كبير من الأهمية، إذ هم ركزوا على الأحداث وأحيانا السياسات الأمنية دون التركيز على العقيدة الأمنية التي تبناها بورقيبة منذ الاستقلال والتي تقوم على العناصر التالية:
1 - عدم السماح للمعارضة بالبروز تحت أي شكل من الاشكال. لذلك نلاحظ أن القمع واجه كل التعبيرات المخالفة أو المعارضة أو المناهضة لسياسات الرئيس الحبيب بورقيبة أو خياراته الداخلية أو الخارجية أو زعامته. كما واجه كل من تم تصويره على هذه الشاكلة.
2 - ان بورقيبة، بما يعرف عنه من واقعية وفطنة، لم يضع ضمن أهداف الدولة استئصال الرأي المخالف والمواقف المناهضة، وانما حرص على اضعافها إلى الدرجة التي لا تتمكن بها من التأثير في الرأي العام الوطني (تأليبه) أو ارباك «الوحدة القومية الصماء».
3 - اعتمد الرئيس الحبيب بورقيبة خصوصا في بداية الاستقلال وإلى حدود منتصف السبعينات (أي قبل أن تتأثر مداركه وتدخل الصراعات على السلطة والتسابق على الخلافة مرحلتها الحاسمة) على تصنيف للأعمال والتيارات المناهضة، حيث اعتبر المواجهة المسلحة ضد الدولة، والارتباط العضوي بالقوى الخارجية (عربية كانت أو دولية) أخطر أنواع الجرائم السياسية. وزاد عليها في مرحلة لاحقة ولكن بإصرار أقل على التجريم المطلق: تشكيل التنظيمات والمجموعات والأحزاب السياسية المناهضة للحزب الاشتراكي الدستوري.
وقد كنا نلاحظ الحزم في التعامل مع من حمل السلاح ضد الدولة أو ارتبط بالقوى الخارجية وبدرجة أقل من انتظم في هيكل حزبي سري (والأحزاب كلها كانت سرية عمليا وغير معترف بها قانونيا) في حين كان التعامل أكثر ليونة مع المناضلين الآخرين حتى ولو اعتنقوا نفس الايديولوجيا والأفكار السياسية ولم يمارسوها عمليا أو لم ينتظموا لتجسيدها.
4 - إن المنظومة القمعية التي اعتمدها بورقيبة رغم طابعها غير المعقول (طابعها العشوائي) وعدم نجاعتها في المرحلة المدروسة فإننا إذا قارناها بما كان يجري في بلدان مشابهة تعتبر ذات إيجابيات مؤكدة كان من المفروض أن يؤسس على إيجابياتها لتطوير المنظومة نحو مزيد العقلانية والنجاعة والإنسانية.
فعلى سبيل المقارنة يمكن أن نلاحظ ان القمع الذي مارسه بورقيبة على نخبه كان يقوم على عدم الزج بأقارب المناضلين في أتون ما تقدم عليه الدولة من ممارسات قمعية. وقد أمكن لعديد من أقارب مناضلي اليسار التونسي على سبيل المثال تولي مسؤوليات عالية في دولة بورقيبة دون أن يسمح للملفات بأن تتداخل أو يؤخذ زيد بجريرة عمرو. وفي المقابل نلاحظ ان جمال عبد الناصر في نطاق صراعه مع نخبه وخاصة منهم الأخوان المسلمين كان يستلهم مبدأ الثأر والانتقام الشخصي المعمول به في الصعيد المصري (وعبد الناصر كما هو معلوم صعيدي) وهو استهداف أقارب المعني المنحدرين من الجدار الثالث أي بلغة أخرى استبعاد الأخوة والأقارب وأبناء العم من الوظيفة العمومية وهياكل الدولة وغلق أبواب الوظيف أمامهم لمجرد أنهم من أقارب المعارض لجمال عبد الناصر، والفرق واضح بين المعالجتين.
5 - سعى بورقيبة وإن باحتشام وبتردد كنا نعرف أنهما بتأثير من محيطه القريب إلى طي بعض ملفات القمع، وبإطلاق سراح المساجين وإدماجهم في الحياة العامة. وقد شهدنا هذه المحاولات التي سرعان ما انتكست في سنوات 1969 1970 وفي سنة 1972 وفي سنة 1980.
6 - رغم تعدد فرص المراجعة للعقيدة الأمنية التي كانت في جوهرها موجهة ضد النخب التونسية المتحررة من ربقة الفكر الواحد والحزب الواحد، فإن أهم هزة عاشتها هذه العقيدة كانت أثناء أحداث فصة في 27 جانفي 1980 وما تلاها. وقد لمسنا ذلك من خلال استقبال الرئيس الراحل الحبيب بوريبة سنة 1980 وفي مناسبتين (في قصر قرطاج وقصر سقانس بالمنستير) لمناضلين قضوا أكثر من 5 سنوات في سجون تونس لاعتناقهم أفكارا مخالفة لما هو سائد رسميا.
وقد عبر بوريبة بوضوح ل «ضيوفه» السجناء المفرج عنهم للتو، وبقلب مفتوح عن اقتناعه بأن الدولة التونسية قد أخطأت في حقهم وأعلمهم بقراره إطلاق سراحهم وسرعة إدماجهم في الحياة العملية.
وكنا نتصور أن الملف سيطوى نهائيا.
ورغم الجهود التي بذلتها السلط القضائية والسلط الامنية (الادارة العامة للشرطة الوطنية وقتها) والإدارة، فإن عملية الادماج لم تصل الى مداها وبقيت عديد العقبات قائمة (خاصة جوازات السفر) فضلا عن عودة بعض السلط الجهوية والامنية لتعقب المفرج عنهم، دون تسجيل أي نشاط من جانبهم يدخل ضمن الممارسات المحظورة.
7 - المراقب الحصيف يمكن أن يعبّر أن فرصة المراجعة هذه قد ضاعت والسبب في ذلك يعود الى إغفال حقيقة أساسية هي أن العقيدة الأمنية (التي هي جوهر العلاقة بين السلطة والنخب وقتها) ليست شأنا أمنيا وإنما هي قضية سياسية بامتياز وأن التنبّه الى هذه القضية المفصلية ذات الطابع الاستراتيجي كان سيتيح فرصة لإزاحة عبء معنوي كبير على الدولة التي كانت تشعر بالحرج ويكبلها ماضي ممارساتها غير المجدية في حق النخب المتحررة. ولكن السبب في ذلك كله يعود الى حرب الخلافة التي كانت قائمة بين أقطاب السلطة وقتها والى سعي مشترك لهذه الاطراف المتناحرة من أجل إدماج هؤلاء المناضلين في صراعاتهم من الباب الخلفي أو استعمالهم حطبا لمواقد حروب الخلافة المستعرة.
يمكن ان نعتبر ان الجهد الأساسي المبذول على المستوى الامني قد صرف خلال الستينات والسبعينات والجزء الاول من الثمانينات لقمع الحركات السياسية المعارضة او على الأقل تحييد مفعولها وذلك حسب محاور العمل التالية:
* نظرت السلطة بعين الغضب ثم الريبة لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين. وسعت منذ البداية (منذ مؤتمر المنستير 1971) لمواجهة التيار الذي انجبها الى العمل وفق اتجاهين: استبعاد رموزها من السلطة وتهميشهم ثم تقليص حضورهم الجهوي الى الصفر وذلك من اجل تحويلهم من تيار سياسي جارف (كما حصل قبيل مؤتمر المنستير الاول وأثناءه) له حضور وطني جدي يعبر عن تطور الرأي العام في تونس ويعكس تطلع النخب الى طريقة أخرى للحكم وادارة الشأن العام الى قوة ضغط سياسي تتدخل أثناء الازمات الكبرى ويفتح أمامها ابداء الرأي في أبرز المحطات الوطنية (أحداث 26 جانفي 1978 واحداث قفصة 1980.
* تداخلت عناصر مختلفة (منها المواقف الشخصية للوزير الأول وقتها ووزير الداخلية) لمعاجلة وضع حركة الوحدة الشعبية وانتهى الأمر إلى سد الطريق أمام حضورها في الحياة العامة واستبعاد التفافها من جديد حول رمزها الأساسي السيد أحمد بن صالح الوزير الأسبق: وعلى هذا الأساس كان إيقاف أهم مناضليها ومحاكمتهم في أواخر السبعينات.
* حركة اليسار : اعتبرت السلطة ان أخطر تيار فكري وسياسي في البلاد هو اليسار. وقد تعاملت معه على أساس تعطيل حركته من خلال تفريق صفوفه (إثارة النعرات بين اليسار الجديد واليسار الكلاسيكي) وممارسة القمع القاسي عليه وهو القمع الذي لم يوضع له سقف أبدا. كما ان الجهات المسؤولة سعت الى عرقلة تطوره نحو الاعتدال من خلال تهميش عناصر النضج والاعتدال لديه تحجيم وقدرته على التكيف مع متغيرات الواقع.
* التيارات القومية والبعثية : لم تتضح معالم سياسة الدولة تجاهها رغم ان الستينات شهدت عمليات قمع ومحاكمات امتدت الى بداية السبعينات وسرعان ما ارتخى الحبل المشدود بين السلطة وهذه الحركات.
ويمكن تأكيد ان السجال الذي انطلق خلال السنوات الماضية بين وزيري الداخلية ومديري الامن الوطني في تونس خلال الستينات والسبعينات (الباجي قائد السبسي والطاهر بلخوجة) وما برز بينهما من اختلاف طال تعامل الدولة مع التيارات القومية والبعثية، ان هذا السجال لم يلق اي ضوء على هذه العلاقة الملتبسة بل زادها غموضا على غموض.
* التيارات الدينية : هي ليست من صلب حركات المعارضة المنطقية وهي مرتبطة من خلال نشأتها وتطورها وتعرج مواقفها بسياقات دولية استفادت من الاضطرابات والأزمات الداخلية، ويمكن للمرء ان يفرد عملا خاصا لحضورها وعلاقتها مع السلطة على امتداد وجودها.
من خلال ما سبق نستشفّ أن هاجس الدولة هو إخماد الأصوات المعارضة سواء كانت تيارات فكرية أو تنظيمات سياسية وفق نموذج الحزب الواحد والرأي الواحد، ولكن تطور الأحداث جعل السلطة تخفض سقف أهدافها مما جعلها تقبل واقع حضور هذه التيارات في الحياة العامة وفي المنظمات الوطنية وتقبل في وقت لاحق التعدّدية الحزبية ولكن ظلّ هاجسها تقليص حضور هذه التيارات والأحزاب وعدم السماح لها بالترويج لأفكارها على نطاق واسع وفق تصور على غاية في البساطة يتمثل في اعتبار انتشار هذه الأفكار مقدمة للبلبلة والتشويش والنيل من الوحدة القومية.
وبالتوازي مع هذه التطورات المترددة والمجزّأة لاحظنا أن السلط بقيت تعتبر بعض المعارضين القدامى أعداء لا يؤتمن جانبهم رغم أنهم تخلّوا عن عديد القناعات السابقة ولم يعد يربطهم أي رباط تنظيمي مع التيارات والتنظيمات الفاعلة وبقي اندماجهم في الحياة العامة معرقلا وفق المقولة الوضيعة «ان الأحجار لا تذوب» مما هيّأ لتطور خطير رأيناه بدأ يبرز منذ السبعينات وهوعدم تحرج الدولة من مواجهة أفراد أو أشخاص لهم قناعاتهم ولا يمكن أن يمثلوا أي خطر على الدولة أو الوطن، والواقع أن الدولة جعلت لتواجه دولا والأفكار يجب مجابهتها بالأفكار.
* أن المنظومة الأمنية السياسية قد تطورت في بلادنا وفق تعرّجات عديدة ورغم نقائصها وحدودها فقط اشتملت على عديد الايجابيات كان يمكن أن يبنى عليها وتطور وفق قاعدة تضييق أهداف القمع، والاقتصاد في العنف وتغليب المصلحة العامة حقا في تناول المعارضة والشغب السياسي وحتى مظاهر الفوضى والعنف في الساحة العامة، ولكن ذلك لم يحصل مع الأسف الشديد.
والجهد الذي باشره المعنيون المذكورون من مواقع مسؤوليتهم كان يتطور في إطار هذه المنظومة التي لا تقنع في كل جوانبها، ولكن ما يمكن تأكيده أن المسؤولين الذين تمّ التركيز على تجربتهم على اختلافهم لم يكتشفوا الحقيقة البديهية المتمثلة في أن الاشكال يكمن في العقيدة الأمنية والتي يجب تعديلها وتخليصها من الشوائب والتصورات الخاطئة والتي كانت بدورها محكومة بتصورات تطال النموذج التنموي والعلاقة بين السلطة والمجتمع وبين النخب والفئات المجتمعية الأخرى وهي تصورات متآكلة لم تكن تنفرد تونس بها.
"الشروق" الثلاثاء 23 جوان 2009

------------------------------------------------------------------------
اقرأ سيرة ذاتية كاملة للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة www.assyassyia-tn.com/index.php
شاهد صورا للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة www.assyassyia-tn.com/index.php


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.