د. مختار صادق / إن مقولة "تحييد المساجد عن العمل السياسي" هي بادرة حسن نية من أهلها اريد بها باطلا ممن ليسوا أهلا لها. و القبول بهذه المقولة لا يقل خطورة عن إعطاء مشروعية لهيئة بن عاشور التي ظهر بالكاشف أنها بعيدة كل البعد عن روح التوافق و لا تستأهل التنازل عن ثوابت المشروع الإسلامي. و من غرائب الأمور أن أشد المنادين بهذه المقولة هم ليسوا أناسا يقض مضاجعهم الحرص على الإسلام و أهله و لاالغيرة على دين الله و الرغبة في نشر تعإلىمه السمحة بل هم من ألد الأعداء للدين الذي لايرون فيه طبقا لأدبياتهم و عقائدهم و كتبهم و مراجعهم و رموزهم سوي أفيونا و كهنوتية و رجعية لا تليق بالمجتمع العلماني اللاديني الذي ينشدونه. و الدعوة لتحييد المساجد عن العمل السياسي عند هؤلاء لا تتعدي حدود المزايدة الرخيصة و اللعبة السياسية السمجة التي لا تستسيغها العقول. فمن المضحكات المبكيات أن يخرج علىنا الرمز إلىساري تلوي الاخر يدافع عن الإسلام و رموزه من أهل تونس كالقاضي سحنون و القائد أسد بن الفرات و العلامة الفاضل بن عاشور. و قد كان اخر مرة شاهدت فيها مشهدا كهذا عند تقديم برنامج تلفزيوني للتعريف بالسيد شكري بلعيد الناطق الرسمي و رئيس حزب الوطد الماركسي الذي طالما شنف أسماعنا قبلها (في الجامعة و خارجها) بألفاظ كبيرة الحجم عن رجعية الدين و أهله. و بالطبع هو لا يذكر هؤلاء الأعلام التقاة الذين خطوا اسم تونس بأحرف من ذهب في كتب التاريخ إعجابا و استحبابا إذ لو كان الأمر كذلك لاتبع خطاهم في كل شئ بما في ذلك تقربهم إلى الله عز و جل و العمل و العبادة بالليل والنهار كما كان يفعل أولائك الدعاة المجاهدون و لكن أورد أسماءهم من باب المناورة ليس إلا و لسحب البساط من تحت خصم سياسي (و بالتحديد حركة النهضة التي كال لها التهم الكاذبة مباشرة). و حين تستمع إلى بقية ساسة تونس تقريبا بكل أطيافهم تسمع نفس المعزوفة بضرورة "تحييد المساجد عن العمل السياسي". فأين كان هؤلاء "الغيورون"على دين الله و دور عبادته عندما كان رواد المساجد الأحرار يسحلون في زنازين الداخلية و أين ذهبوا عندما كان الأيمة التجمعيون يسبحون بحمد المخلوع في حين يتدافع البوليس السياسي على الصفوف الأمامية "للصلاة" (من غير وضو ء!) بل للوشاية بالمصلين. كل ما سمعناه حينها من أغلب هؤلاء المنادين بشدة بضرورة تحييد المساجد عن العمل السياسي هو صدى لقهقهة الأشياء التافهة على جدار صمتهم المشبوه أو أصوات السكاكين الحاقدة و هم يشحذونها على عتبة نظرياتهم الضالعة ليقدمونها للمخلوع و زبانيته حتي يقطع أوصال الجسد الإسلامي في أرض تونس المسلمة. هؤلاء ليس لهم أي حق أخلاقي أو تاريخي أو معرفي أو سياسي في الحديث عن تحييد المساجد عن العمل السياسي. و لقد نادى الإسلاميون فجر انتصار الثورة المباركة بنفس المقولة في إطار روح التوافق و تحقيق أهداف الثورة و عدم إعطاء فرصة لمجتري سياسة التخويف وإعادة سيناريو المخلوع مرة أخري للتفريق بين أبناء البلد الواحد حتي يسهل ابتلاعهم بعد ذلك فرادي. و قد قبل الإسلاميون (و بالتحديد حركة النهضة) مقولة التحييد هذه لأسباب عديدة منها ما هو ذاتي و أخر يخص البلاد و الأخر ذو بعد عالمي ليس المجال هنا لتفصيلها. و يجب التذكير أن هذه المقولة لا أساس لها من الناحية الشرعية أو العملية (على الأقل كما بدت لنا) . فمن الناحية الشرعية كلنا يعلم أن الإسلام ليس كالمسيحية و لا فصل في الإسلام بين الدين و حياة الناس العامة و الخاصة. فالمسجد ليس ناد لطقطقة المسابيح و تلاوة التعاويذ و إطالة اللحي و التبحر في كتاب الطهارة و لكن المسجد و قبل كل شئ هو قلب الأمة النابض يبصر الناس بأمور دينهم كما أمور دنياهم و يعبئ رواده ليجعل منهم أفراد مجتمع صالحين يعرفون حقوقهم و واجباتهم و هم واعون بتحديات البلاد و الأمة و على دراية بما يحاك حولهم من دسائس. و المسجد مكانا لطاعة الله أولا و لملاقاة الأخلاء ثانيا لتقوية الايمان و الإستئناس و الشعور بالإنتماء إلى أعظم مشروع في التاريخ الإنساني. و يجتمع المسلمون الأحرار في مسجدهم ليجددوا إيمانهم بملاقاة بعضهم البعض و ليتعاونوا على تفريج كرب المهمومين من أبناء الوطن و نشر تعإلىم الدين الحنيف خاصة بعد سنوات التجفيف العجاف التي قضاها أولئك المنادون بالتحييد في التحريض على المشروع الإسلامي و تخويف العالم بشرقه و غربه من صعود الإسلاميين. و لنا في رسول الله أسوة حسنة عندما جعل من المسجد مركز الأحداث و منطلقها. فلماذا كل هذا الخوف على مشاعر الملاحدة و قد كان ديدنهم في احترام مقدسات المسلمين هو "لا ربي لاسيدي"? و كشفت أحداث المدة الأخيرة المتعلقة بتداعيات الهجمة الأخيرة على مقدسات البلاد و تباكي أولائك المشبوهين على حرية التعبير المزعومة زيف حرصهم على الإسلام و أهله. أما من الناحية العملية و هي الأخطر فإن مقولة تحييد المساجد عن العمل السياسي هي دعوة للتطرف و الفوضي و هي خطر يتهدد الجميع بما في ذلك العلمانيين و الإسلاميين على حد السواء. فطيلة سنوات الجمر و ما تلاها كانت الدولة بكل مؤسساتها و المعارضة بكل أنواعها المدجن منها و المجند تعمل ليل نهار على إبعاد الشباب عن المساجد في إطار سياسية تجفيفية ممنهجة من التجهيل و التمييع. و كرد فعل احتجاجي على القمع الديني اتجه كثير من الشباب نحو المساجد و تجاذبتهم المدارس المتطرفة بعد أن حرموا من العمل السياسي الذي يتيح قدرا هائلا من تدريب النفس على الإستماع للاخر و تفهم وجهة نظر الطرف المقابل. و النتيجة نشو ء جيل من الشباب الإسلامي غير المؤطر في ظل الغياب القسري للحركة الإسلامية على امتداد العشريتين الماضيتين. و الكثير من هؤلاء الشباب الغيورين على دينهم يسهل استفزازهم و اختراقهم من طرف البوليس و جرهم إلى معارك جانبية لانعدام التكوين السياسي المتماسك الذي طبع نشأتهم حيث لا يري الكثير منهم الأشياء سوي بمنظار الحلال و الحرام و الكفر و الإيمان. و تعتبر حادثة حي التضامن الأخيرة التي تعرض لها أنصار حزب العمال الشيوعي التونسي من طرف بعض الشباب "الملتحي" مثال و نموذج مصغر لما هو ات إذا لم يتدارك الإسلاميون الأمر و "يفتكوا" المسجد من هؤلاء قبل فوات الأوان و قبل أن تتحول تونس لا قدر الله إلى باكستان مصغرة حيث اللجوء للعنف و حصد الأرواح هو العملة المتداولة لفض الخلافات السياسية و الفكرية.