"افرح بي" عبارة لا يسمعها التونسيون الا عند نزولهم لزيارة بلدهم كل صيف ، أو لأكون دقيقا في كل مرة تطأ أقدامهم ميناء حلق الوادي ،وهي باختصار دعوة وعادة ما تكون ملحّة للفرح و الأكرام ، أي أنّ من يقولها لك يدعوك أن تُكرم وفادته وتَسعد بقدومه، والمُضحك المُبكي في تلك العبارة أن تسمعها من أفواه من يُنتظَر منهم أن يفرحوا ويستبشروا بزيارة المغتربين لأوطانهم ، وهم بداهة ، المستقبلون من موظفي الديوانة وشرطة الحدود ، وجآءت غضبة الشعب بالثورة، لتبدأ تغيير النفوس و المواقع ، وطفقنا نحسّ من هنا وهناك أنفاسها ، واستطاع التونسي أخيرا أن يقف في وجه الفساد والاستبداد ، وحلمنا بنظام حياة جديد ، في كل مجال وعلى كل المستويات ، وظننّا أنّ العبارة ستزول من افواه وعقول السادة المستقبلين لتنتقل الى أفواه السادة الضيوف ، لكن شيئا من ذلك لم يحدُث، أو لنَقُل أن التّغيّر كان طفيفا حتى لا نجانب الدقة ، وفوجئنا تقريبا ببقاء نفس الممارسات ، فلماذا لم يكتمل قرص شمس الثورة بعد، على ميناء حلق الوادي؟؟ قبل الرابع عشر من جانفي ،كان الجو السياسي والاجتماعي العام ،سببا رئيسا في انتشار الكثير من الظواهر ، كالمحسوبية والرشوة والفساد الأداري عموما، أمراضٌ تنخر جميعُها جسم البلاد المنهك، ولم يعد يُستغرب شئ خصوصا في السنوات الأخيرة ، وظهرت في ثقافتنا الكثير من "الأمثلة" التي أصبحت فيما بعد مُثلا تعكس واقعًا منحرفا ورديئا ، أصبح فيه الالتزام بأشكاله المختلفة وفي كل المجالات تقريبا ،مثارا للسخرية وعنوانا للطرافة والتّندر وسببا في تعطّل المصالح ،وفي النهاية مجلبة للفقر ، وأنت في كل الحالات مُجبر على أن " تفعل مثل ما يفعل جارك ، أو أن تحوّل باب دارك" وخيرٌ لك أن لا تسأل عن التفاصيل و أن لا تحاول الفهم ، واذا قُدّر لك أن تفهم ، فعليك أن تكتم ، لأن "من خاف سَلِم" ، وما الى ذلك من أمثلة سلبية صاغتها سلوكات منحرفة ،في ظل فساد طمّ وعمّ لم يسلم منه مجال ، ثم كانت الفوضى في القيم ألفها الناس فما عادت تحرك السّواكن ، ورانت على القلوب لامبالاة عجيبة استُبيحت فيها كل القيم الاجتماعية بلا استثناء ، وفي هذا الجو الموبوء تأسست علاقة التونسي المهاجر بمستقبليه على بوابات الحدود, لقد كان لميناء حلق الوادي النصيب الأوفر من مشاهد العبث بالقانون ، وباتت ممارسات كالرشوة والمحسوبية عادة لا يُخجل منها ، ولكي لا نجانب الحقيقة فنقع في التجنّي ، لابد من القول أن المهاجر كان هو السبب الأول لهذه الظاهرة ، ولا أقصد هنا أن كل مهاجرينا كانوا يستحلّون ما حرّم الله والقانون ، ولكنني أعني بعضهم من ذوي الطمع والجشع ، والذين لا همّ لهم سوى قضاء شؤونهم بادخال ما يريدون الى البلاد بمنأى عن أي أداء ، لغاية التربح غير الشرعي ، ولأن راتب الموظف في تونس لا يكاد يستر عورات الحاجات ، أضف الى ذلك ضعف الوازع الخُلقي والديني لدى الكثير من موظفي الدولة ، فانهم أصبحوا هدفا سهلا للمتربّحين والمهربين وهواة التحيل والتهرب الضريبي، وما رحم الله منهم الا القليل ، وبعد أن كانوا شواذا يعملون على استحياء ، صاروا بالتمادي أغلبية تنشط بوقاحة ، واذا زال الحياء فاصنع ما تشاء. وفي ظل سياسة ، لا يستحي صُنَاعها من هتك القوانين ، بل ويستمرؤن نهب أموال الخلق بالباطل ، نشأت علاقة غريبة بين المواطن والدولة ، سادها التوتر وميّزها البحث عن "دفع الضرر" و"جلب المنفعة" بكل الوسائل ، دون تقيُّد بأخلاق أو التزام بضوابط ، وغضَّ المستبدون الطرف عن كل ذلك بل وشجعوا موظفي دولتهم وخاصة منفذي القانون فيها ضمانا لولائهم على سلب ما تبقى للمواطن من فُتات ، بعد أن سُلبت منه الكرامة . إن نجاح الثورة من نجاح أهدافها ، ولمّا كان تطهير الساحة من كل عفونة غاية لم تكتمل بعد ، فان ثورتنا لازالت منقوصة ، ولا أدّعي القول أن التغيير يجب أن يكون فوريا وحاسما ، بل لابد لذلك من صبر ورفق وثبات ، والنفس التي تربَت على استمراء الحرام واستباحة الممنوع لسنوات طويلة، لابد لها من زمن يطول أو يقصر لتعود الى فطرتها ، فنفوس أبنائنا في الديوانة والأمن لم تُجبل أبدا على الممارسات الخاطئة أو تجاوز القانون وخيانة الأمانة ، ولكنها تأذت بما تأذى به المجتمع كله وأصابها نصيبها من أمراضه ، التي صنعها الأستبداد ، لأن الظلم كما قيل ، مرتعه وخيم . ان ثورتنا التي انتظرناها لعقود طويلة ، لابد أن تكون أولا ثورةً على النّفوس ، تُهزم بها الأنانية الضّيقة وتحقيق المصالح الشخصية التي طبعت سلوك الكثير من التونسيين بالخارج ، ويُمحى بها الطمع والتسلط اللذين عُرف بهما الكثير من موظفي الحدود ، ولكي نساعد كل الأطراف على تغيير ما بالنفوس ، علينا أن نراجع ما بالتشريعات من اجراءات ديوانية وشُرطية تُثقل كاهل المغتربين ، وأن نضمن لموظفي الدولة في المصالح الحسّاسة قدرا من المناعة ، بتحسين أحوالهم المعيشية وتكريس حقوقهم النقابية ، والأوكد من كل ذلك ، علينا أن نُحيي ما مات في النّفوس من الوازع الخُلقي والقِيمي حتى يكون الكلّ رقيبا على نفسه ، وبهذا تصل أشعة شمس الثورة كل شبر من أرضنا ، ويسعد كل منّا بالآخر ، و"يفرح" كلّ تونسي بأخيه في ميناء حلق الوادي وفي كل نقطة لقاء على حدود بلدنا أبي الثورات . محمد أبوعدنان العرضاوي استاذ علوم التربية تطاوين في 19/07/2011