ظاهرة الغش هي من أفسد الظواهرالتى عرفتها البشرية في تاريخها, وخلاصة تعريفها : "هي إخفاء العيوب بخلط الرديء بالجيد بقصد الاستيلاء على الأموال والحقوق" وقد بعث الله النبيين والمرسلين في أمم عديدة لمحاربة هذه الآفة الاجتماعية التي نخرت اقتصاديات تلك المجتمعات نخرا, وساهمت بقدر كبير في تفكيك أواصر الأخوة بين أفرادها, وأضعفت جهود التعاون بينهم, حتى غدا كل فرد في تلك المجتمعات ينظر إلى أخيه بمنتهى الحذروالريبة, وساد بينهم الخوف, وانعدمت بينهم الثقة, وحل بينهم التنافر والتدابر, وانتشرت بينهم العداوة والبغضاء والكراهية, ودب في نفوسهم الحقد, وقد أرسل الله سبحانه وتعالى سيدنا شعيب إلى قومه لمحاربة هذه الظاهرة التي نخرت كيانهم نخرا, وأتت على بنيانهم من القواعد نسفا, وقد أصابت هذه الظاهرة : ظاهرة الغش معاملاتهم التجارية, وأصبح الغش في الميزان هو السلعة الرائجة لديهم, والعقيدة المربحة عندهم, فقال الله تعالى عنهم : " وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴿11/84﴾ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿11/85﴾ بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴿11/86﴾ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴿11/87﴾ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴿11/88﴾سورة هود لقد دعاهم سيدنا شعيب إلى العبودية لله التي تقتضي منهم الصدق واجتناب الغش ففي ذلك الخير لهم ودعاهم مرة أخرى إلى العدل في الكيل والميزان وبين لهم أن الغش من الفساد في الأرض وما يريد لهم إلا الإصلاح في حدود استطاعته راجيا التوفيق من ربه. وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿7/85 سورة الأعراف وقد أكد الله في هذه الآية الكريمة مرة أخرى على لسان سيدنا شعيب على نفس المطالب وهي دعوتهم إلى عبودية الله والعدل في الكيل والميزان واجتناب الغش مع بيان أن التزام العدل في المكيال والميزان هو منهج الصلاح بينما التشبث بالغش هو منهج الفساد وشتان بين هذا وذاك. وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿29/36﴾ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿29/37﴾ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴿29/38﴾سورة العنكبوت. وفي هذه الآيات تتكرر على لسان سيدنا شعيب إلى قومه نفس المطالب التي جاءت في سورتي هود والأعراف مع تذكيرهم هذه المرة بيوم الآخرة ذلك اليوم الذي تقف فيه جميع الخلائق للحساب ولكل حسب ما قدمت يداه. وكذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغش وتوعّد فاعله، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً. فقال: « ما هذا يا صاحب الطعام؟ » قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: « أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني » وفي رواية « من غشنا فليس منا » وفي رواية « ليس منا من غشنا » [رواه مسلم].
وقد عرفت بلادنا في عهد الرئيس المخلوعهذه الظاهرة انتشارا كبيرا في كل مجالات الحياة ابتداء برئاسة الدولة ثم مجال التجارة ومرورا بمجال المهن المختلفة ووصولا إلى مجال الصحافة ومجال التعليم والدراسة.
في مجال الحكم ورئاسة الدولة : لقد نصب المخلوع نفسه علينا حاكما طيلة 23 سنة استأمناه على كل شيء ولم ينصح لنا في أي شيء وحكمنا وهو غاش لنا في كل شيء على جميع الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأكبر غش ارتكبه في حقنا إطلاقه لأيدي الفاسدين من عائلته وعائلة الطرابلسية في البلاد ليعيثوا فيها فسادا واستيلائه على أموال صندوق 26-26 ظلما وبهتانا والتي هي أموال الفقراء والمساكين وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم كل من استرعاه الله رعية سواء كانت صغيرة أو كبيرة ابتداء من أفراد الأسرة وانتهاء بأفراد الشعب وسواء كان هذا الراعي أبا أو حاكما ولم ينصح لهم وغشهم بعذاب يوم القيامة عن معقل بن يسار المزني- رضي الله عنه- أنه قال في مرضه الذي مات فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة » [رواه البخاري ومسلم واللفظ له]. وأحد لفظي البخاري: « ما من مسلم يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة »
في مجال التجارة : وفي مجال التجارة انتشر الغش انتشارا وأخذ أشكالا كثيرة وأنواعا مختلفة نكتفي بعرض نوعين من هذه الأنواع : النوع الأول يصيبك في نوعية السلعة فيبيعك تاجر الخضروات أو بائع الغلال السلعة الرديئة والفاسدة المخلوطة بالسلعة الجيدة ويحلف لك بالأيمان الغليظة على أنها جيدة وجديدة وهو الذي حظر معك منذ قليل أداء صلاة الجمعة, وعندما تكتشف أمره وغشه يرمي الكرة في ملعب البائع بالجملة الذي اشترى منه السلعة, وهذا النوع من الغش هو الرائج بين تجار الغلال والخضروات, وأصحاب هذا النوع من الغش تكتشف أمرهم وتؤنبهم ولا يتورعون عن العودة إلى غشهم, فقد جربناهم كثيرا وما تابوا وما انتهوا عن أفعالهم المشينة. والنوع الثاني يصيبك في نقص الميزان وهذا النوع من الغش له تجاره ومحترفوه, فيكثر استعماله عند بائعي المواد الغذائية وكذلك عند بائعي الخضر والغلال وتجار السمك والجزارين وغيرهم كثير, فيعمد أصحابه إلى إحداث خلل بالميزان ليزن لهم بالنقص, فيحقق لهم الربح, وهذا النوع من الغش له علاقة بالرشوة كيف ذلك ؟ فالمشجع على الغش من ائتمناه على القيام بدور المراقب في السوق, ليقوم بدوره في مراقبة التجاوزات في المعاملات التجارية من بيع وشراء, فتعطى له الرشوة فيغض الطرف عن تلك التجاوزات, بل يصبح بذلك عونا على الغش ومساعدا عليه, وقد شاهدنا في السوق المركزي صاحب هذا الفعل الخاطئ ( المراقب ) يمشى بين الناس متنقلا من "نصبة" إلى "نصبة" جامعا للرشوة.
في مجال المهن : وفي مجال المهن التي كان أسلافنا يجلونها ويجلون أصحابها, وجعلوا لكل مهنة منها أمينا, يشرف عليها ويرعى شؤونها ويحافظ على نقاوتها من الغش والمتطفلين عليها, فلا يمكن لحرفي أن يمارس المهنة ويصبح "أسطى" إلا إذا زكاه "أسطاه" الذي يعمل عنده وأمين الحرفة التي ينتمي إليها, والتزكية تهم الأخلاق المهنية أولا, والحرفية في العمل ثانيا, وأهم الأخلاق عندهم الصدق في القول وعدم الغش في العمل, وعندما جردنا مهننا من أخلاق الصدق والأمانة, وتركنا الحبل على الغارب دون تدخل لتنظيم هذه المهن, تطفل عليها المتطفلون الذين لا يفقهون منها شيئا, فشاب أعمالهم الغش حتى صرنا لا نجد في المائة من المنتصبين لمهنة صاحب صنعة واحد, يتقن عمله ويراقب الله فيه.
في مجال الصحافة : وفي مجال الصحافة كثر الغش, فلا تكاد تفتح صحيفة حتى تزكم أنفك رائحة الغش والفضيحة, يخلطون الحسن بالسيئ, ويدسون السم في الدسم, يرفعون به أقواما ويضعون به آخرين, وهم بفعلهم ذاك يزيفون الحقائق, ولقد صنعوا بالأمس من بن علي بطلا , شهما وشجاعا, وهو لا يملك من البطولة والشهامة والشجاعة شيئا, ونسبوا إليه العلم والحكمة وحسن التدبير, وكل شعبنا يعرف أن هذا الرجل عسكري ليس له من العلم غير فنون الجوسسة والمخابرات, والتضييق على الحريات ومن حسن التدبير في حكمه وفي نظر مستشاريه تلك المراقبات اللصيقة لأحرار تونس, ومحاسبتهم على كل أفعالهم وأموالهم المحاسبة الدقيقة, مستعينا في كل ذلك بالبوليس السياسي ومراقبي الأداءات المالية.
في مجال التعليم : وفي التعليم ظهر الغش جليا لدى الأستاذ والتلميذ على حد السواء فالأستاذ لا ينصح في الدرس الرسمي حتى يلجأ التلميذ إلى الدرس الخصوصي وبالتالي يتحول الخصوصي الذي هو في الأصل تكميلي وتحسيني إلى درس أساسي ويصبح الدرس الأساسي هو الخصوصي رغبة من الأستاذ في الحصول على الكثير من الأموال ويبقى في كل الأحوال الخاسر الوحيد التلميذ الفقير الحال , فيلتجئ بدوره في كثير من الأحيان إلى الغش في الامتحان , وقد ينجح بالغش ويلازمه الغش في الوظيفة , فيرتقي في سلم الترقيات باعتماد كل وسائل الغش , فيصبح المدير والمسئول الكبير , والحال أنه الغشاش الكبير, فتنخرم بذلك أحوال المؤسسة وتعرف الخسائر والبلايا , وتتحول من سيء إلى ما أسوأ
وإذا أردنا إصلاح أحوالنا من هذه الظاهرة وتقليصها والحد من تأثيرها وأثارها السلبية على مجتمعنا , فما علينا إلا نتخذ إجراءات عاجلة على مستوى أجهزة الرقابة من حيث تطوير آلياتها وتحسين خططها , ومن حيث إعادة تأهيل أفرادها على أسس علمية متطورة وبرامج أخلاقية هادفة , هذا في مجال التجارة . أما على مستوى المهن فتجدر الإشارة إلى إعادة هيكلتها على قواعد علمية وإدارية متطورة , حتى نقطع مع ظاهرة المتطفلين المهنيين, ويصبح الإطار المهني الأمثل الذي يتعامل معه الناس هو الإطار المهني القانوني والخاضع للمراقبة. وفي مجال الصحافة وباعتبارها السلطة الرابعة تجدر الإشارة إلى تمكينها من الحصانة الكافية, لتقوم بدورها الإعلامي الأصيل في كنف الشفافية والحرية بعيدا عن كل تدخل فردي أو جماعي سلطوي. وفي مجال التعليم تجدر الإشارة هنا إلى إعادة النظر في مسألة الدروس الخصوصية وتكثيف عمليات التفقد على الأساتذة , حتى يقوم كل أستاذ بدوره في نظام الحصص الأساسية على أكمل وجه. هذا وتبقى الرقابة إلا لاهية فوق اختيارالجميع يستشعرها كل مؤمن بلغ في كدحه إلى الله درجة الإحسان, فيصبح عابدا لله تعالى كأنه يراه فان لم يكن يراه فهو يراه, مستشعرا قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿58/7 وتربية النفس ومجاهدتها خير حافز على مراقبة الله, وإحسان العمل وإتقانه في كل مجالات الحياة .