إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأصلي وأسلم على الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، وبعد فإني أتقدم إليكم بهذه الكلمات /النفحات من قلب كتاب مدارج السالكين للعلامة الشيخ ابن القيم رحمة الله عليه راجيا من الله أن تنفعنا جميعا هذه الكلمات وان نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. نستكمل بإذن الله حلقاتنا استئناسا بتذكرة "مدارج السالكين" للإمام الشيخ ابن القيم رحمه الله. ذكرنا في منزلة التوبة أنها هي أولى المنازل وأوسطها وآخرها، ذلك أن "من نزل في منزلة التوبة وقام في مقامها نزل في جميع منازل الإسلام" انتهى كلام ابن القيم، ومنزلة الإنابة هي إحدى المنازل التي تتضمنها التوبة، ذلك لأن التوبة الكاملة تقتضي الرجوع إلى الله ابتغاء مرضاته وعفوه، وفي لسان العرب لفظ أناب يعني: "تاب ورجع"، وفي قوله تعالى " وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ" يقول القرطبي في تفسيره:" أي ارجعوا إليه بالطاعة"، وهذا الرجوع إلى الحق سبحانه يستلزم: إصلاحا بعد الإقلاع عن المعصية: "إلا من تاب وآمن وعمل صالحا" سورة الفرقان آية 70، "فلا تنفع توبة وبطالة، فلابد من توبة وعمل صالح: ترك لما يكره وفعل لما يجب، تخل عن معصيته، وتحل بطاعته" انتهى كلام بن القيم، وتجديدا للعهد مع الله بعد الغفلة: "وأنا على عهدك ووعدك مااستطعت" جزء من حديث صحيح رواه البخاري عن شداد ابن أوس رضي الله عنه، وحالا يصدق المقال، فالله سبحانه "قد دعاك فأجبته لبيك وسعديك قولا، فلابد من الإجابة حالا تصدق به المقال، فإن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها..." انتهى كلام بن القيم. فأما الإصلاح بعد الإقلاع عن المعصية فمقتضاه التوبة النصوح، وتألم القلب لما اقترف من ذنوب والإكثار من الطاعات استدراكا لما فات؛ وأما تجديد العهد بعد الغفلة فمقتضاه التخلص من لذة الذنب "فإن العبد إذا صفت له الإنابة إلى ربه تخلص من الفكرة في لذة الذنب، وعاد مكانها ألما وتوجعا لذكره" انتهى كلام بن القيم، وأن يرجو العبد لنفسه الرحمة ويخشى على أهل الغفلة النقمة "فإن كنت لابد مستهينا بهم ماقتا لهم، لانكشاف أحوالهم لك، ورؤية ما هم عليه، فكن لنفسك أشد مقتا منك لهم وكن أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك" انتهى كلام بن القيم، والتفتيش عما يشوب أعمال العبد المنيب من حظوظ النفس تحريا للإخلاص لله فيها الذي هو شرط قبولها، ف"كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال: أن تكون لله خالصة، وأن تصل إليه" انتهى كلام بن القيم؛
وأما الإنابة إلى الله حالا فمقتضاه الإياس من النجاة بعمل العبد المنيب والاعتقاد بأن النجاة هي برحمة الله سبحانه وفي حديث صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: " لن ينجي أحدا منكم عمله . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة ، سددوا وقاربوا ، واغدوا وروحوا ، وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغو"، "فإنه إذا أيس من عمله: شهد أن الله عز وجل غني بالذات، فإن الغنى وصف ذاتي للرب، والفقر والحاجة والضرورة وصف ذاتي للعبد" انتهى كلام بن القيم، والنظر في لطف الله حتى "يعلم أن كل ما هو فيه وما يرجوه وما تقدم له: لطف من الله به، ومنة من بها عليه، وصدقة تصدق بها عليه بلا سبب منه" انتهى كلام بن القيم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون من عباد الله المنيبين إليه والراجين رحمته وعفوه سبحانه. وإلى اللقاء في الحلقة القادمة بحول الله مع منزلة التذكر.