نصرالدين السويلمي من هناك من معتمدية منزل شاكر نشأ الصبي الهادئ الطبع الذي يتزاحم على محياه الحياء والإباء، كلاهما يبحث له عن موطئ قدم ليستوطن ولا جرم فلطالما حددت قسمات الطفولة معالم الرجولة... مثلما شبّ أطفال كعمر وصالح وعلي وسامح وعبد الرحمن ومراد.. شبّ كذلك طفل اسمه فتحي وحلم بالذي يحلمون وتدرّج بين مقاعد المدرسة الإبتدائية بالعيايدة وبيت دافئ تدور في جنباته وشوشة عن الأصالة والشهامة وعن العزّة والعدل والإقدام، وشوشة تدور في البيت والزقاق تنسب هذه العبارات السامية لغير المجاهد الأكبر والماجدة.. كلمات عبّأها الطفل في صدره هكذا مواد أولية إلى أن يستوي العقل فيشرع في تفكيكها، لم يكن الولد الأنيق يعلم أنّ هذه الوشوشات التي سمعها ستخصّبها المساجد وتجليها التجارب وتستفزّها آلة الإجرام المنظّم التي أخذت على عاتقها تنفيذ جميع مشاريع التهميش الدينية والثقافية والإعلامية والتربوية.. وبينما كان الصبي المائل إلى الشباب ينهل العلم من معهد الذكور بصفاقس كانت حاسّة الرفض لديه تتطور باستمرار وبنسق سريع ومذهل، ومع التحاقه بمدرسة المهندسين بصفاقس كانت هذه الحاسّة قد خرجت كليا عن سيطرة "ولي الأمر" ودخل الشاب اليافع رسميا في حالة استعصاء وعصيان مدني في وجه نظام لا مدني، حالة دامت لأكثر من عقدين قضمت شباب العيادي وأتت على جانب من كهولته. تحت وقع عنفوان الشباب تحول الشاب مع إخوانه إلى المجاهرة بعدائهم للديكتاتور وشرعوا مبكرا ومنذ بدايات تسعينات القرن الماضي في دعوة الرئيس المتسلط إلى الرحيل، رئيس يبدو أنّه تناول جرعة هائلة من حبوب السادية أمام شبّان يبدو أنّهم تناولوا جرعات هائلة من حبوب منع الاستسلام" . حفّز نظام بن علي التوحش كي يزيد في توحشه وأعطى للداخلية تفويضا كاملا بالقتل وفوّت لها في رقاب الناس تختطف.. تسجن.. تغتصب.. تنتهك.. تعذّب.. تقتل.. ثم جعل كل مقدرات الدولة تحت إمرة وعلى ذمّة البناية السيئة السمعة المنتصبة في قلب العاصمة التي تقطع الطريق عن أحلام الناس وآمالهم وتتفنن في تنغيص أفراحهم، أثناء ذلك قرر الطاغية أن يشوي الإسلاميين وأن يجعل من رائحة شوائهم رادعا للشعب، وسيق فتحي العيادي مع إخوانه إلى غرف مشبوهة أين دارت أبشع صنوف التعذيب حيث نُفّذت جرائم سيرويها التاريخ وتكشفها الحقائق حين "تشرب الثورة عرقها" ويستتب لها الأمر. بعد صنوف التعذيب وسنوات السجن الحالكة وبعد أن نصب بن علي بمعية يساره الإنتهازي المحرقة للإسلاميين وأعلنوا رسميا تدشينها عشية صدور وثيقة تجفيف منابع التدين بدا للعيادي وثلّة من رفاقه أنّ الهجرة تحمي من محرقة الطاغية وتعطي فرصة أكبر لمواصلة مشوار النضال فعزموا على ذلك، ووسط أجواء مشحونة وفرق أمنية مبثوثة في الطرقات والمسالك والجبال والغابات نَفَذَ العيادي وإخوانه تاركين خلفهم تفاصيل الطفولة الحُلوة و أكواما من الأحلام والأماني بعثرها جنون طاغية، تركوا خلفهم أرحاما ومشاريع عواطف نظيفة راقية منها من اتصل بتوفيق من الله ومنها من انفصل ليحمّل بن علي وزر عواطف ماتت في مهدها وأجساما بريئة هوت بلا ذنب إلى لحدها. إلى ألمانيا حيث انتهت به رحلة التهجير.. حالف فتحي العيادي النجاح في علاقاته وفي حياته الخاصّة والعامّة، في عمله وفي نضاله، وفي مراكز القيادة المتعددة التي تولاها لكنّه تجنّب التجارة لأنّه لا يفقه فيها شيئا لذلك تجنّبته مخابرات بن علي وبوليسه السياسي في المفاوضات وعقد الصفقات لعلمهم أنّ الرجل ليس له في البيع والشراء. وفي هجرته القسريّة اكتشفت الجالية التونسية والعربية شخصيّة نادرة في طبعها، رجل يغلب عليه الحياء، ودود يركن إليه الصغير قبل الكبير.. يمتاز بألفاظ سمحة ليّنة.. هذه الطباع وغيرها خلّفت سؤالا غريبا " من أين أتى هذا الرجل بالحدّة والعناد والجسارة التي واجه بها ماكينة بن علي القاتلة ؟؟؟" حقا إنّ خيار الناس أولئك الذين هم أذلّة على الطيبين أعزّة على الجبابرة والأكاسرة.