رجال ونساء ، شيب وشباب ، أطفال بمختلف الأعمار ، رضّع ، أبناء مدارس، ممثّلي أحزاب ، كهول مقعدون ، عجائز من كلّ حدب وصوب ، كلّهم اصطفّوا في طوابير طويلة من أجل تونس ، تونس العزّة والكرامة والشّموخ وحول هذا المشهد العظيم اختلطت دموع الفرح بآهات المحرومين والمهمّشين لتتحدّى روح الإنكسار ولتعلن للسّاسة ولأصحاب القرار بأنّ إرادة التّونسي لن تموت ، وأنّ الوقائع تؤكّد يوما بعد يوم بأنّ الوعي الجماهيري ليس بظاهرة عرضيّة ولا هيّ في طور التكوّن تبرز أحيانا وتختفي أحيانا أخرى ، بل إنّها مخزونة في كيان هذا الشّعب ، لأنّ الواقع الإجتماعي ما هوّ إلاّ انعكاسا فعليّا تتفاعل داخله العوامل الإقتصاديّة والسيّاسيّة والثقافيّة والإعلاميّة ، ويمكن أن تترجم في أيّ لحظة إلى ممارسات قد تتحوّل فجأة إلى حركية ثوريّة تتجلّى ملامحها من خلال رغبة الجماهير في التّغيير لتحديد حقيقة الوضع الفعلي الذي ينسجم مع حاضر الفرد المتجذّر في هويّته العربيّة والإسلاميّة والمتطابقة مع ذاته والمستندة إلى مستقبل يتطلّع إلى المزيد من تكريس تلك الهويّة والمصالحة من الذّات . لقد كانت تلك المشاهد التي تناقلتها وسائل الإعلام العربيّة والأجنبيّة تأكيدا على رأي مازلنا نؤمن بحقيقته لما يستند عليه من حجج ، وهو القول بأنّ النّظام البائد الذي ظلّ يحكم تونس بتجلّياته المختلفة ، والذي أمعن في التنكيل بنا داخل السّجون والمعتقلات ، لم يكن سوى مجرّد سلطة بربريّة همجيّة مرتبطة في الأساس بالرّغبة في التفرّد بالحكم ، وقتل كلّ المعاني المتعلّقة بالحريّة والعدالة ، والكرامة الإنسانيّة لخدمة مصالح ذاتيّة وعائليّة ، و أنّ الإقبال الجماهيري الكثيف على صناديق الإقتراع ما هوّ إلاّ تجسيدا لوعي والتزام ذاتي بالمسؤوليّة في واقع العمل السيّاسي للتعبير عن ممارسة حضاريّة واختيار حرّ يقطع نهائيّا مع ماض فقد كلّ معاني التحضّر والتمدّن . وضمن هذا الفضاء الجديد يمكن أن نؤكّد بأنّ من سيحكم تونس في المستقبل لا يمكن له بأيّ حال من الأحوال أن يستولي على ثروة البلاد أو يبيد الآخرين ، فضلا عن الوقوف ضدّ تطلّعات الشّعب للحريّة والعدالة الإجتماعيّة ، لأنّ الرّقابة الشّعبيّة هذه المرّة حاضرة بقوّة . فهنيئا لتونس إذا بهذا النجاح الباهر ، في انتظار تشكّل المشهد السيّاسي الجديد ، الذي قد ينجح في وضع بدائل تمكّننا فعلا من تجاوز الواقع الزّائف الذي رسمت خطواته الأولى العلمانيّة البورقيبيّة وسهرت على تنفيذ أدواته آلة القمع للرئيس المخلوع بن علي . نورالدين الخميري إعلامي تونسي