في سياق تعدد القراءات لنتائج الانتخابات وما أفرزته من مواقف طغت على الجانب النقاشي سواء على صعيد الرأي العام أو الفاعلين في الساحة السياسية يبدو أنه من الأفضل محاولة استنباط طريقة للقراءة تتسم بالهدوء والتأني وتقطع مع الأفكار المسبقة والمناهضة البدائية للإسلاموية (anti-islamisme primaire)، قراءة عقلانية تفكّك نتائج الانتخابات وتخضعها إلى منطلقات سوسيولوجية. ولا بد منذ البداية من التأكيد على أن انتخابات المجلس التأسيسي ليست انتخابات بالمفهوم المتعارف عليه أي أنها ليست مظهرا في صيرورة مجتمع وإنما ضرورة أملتها صيرورة المجتمع التونسي في مرحلة حسم ومحاولة القطيعة مع نمط الحكم السائد منذ أكثر من عقود -إن لم نقل قرون- وعقليته السائدة والمفروضة في الآن نفسه من أجل البناء الديمقراطي ثم التحول إلى مجتمع ديمقراطي.
محاولة قراءة مختلفة
لن أتحدث عن دروس بأتم معنى الكلمة أو قراءة في خريطة جديدة للحياة السياسية بل هي محاولة لقراءة مختلفة يتم فيها قلب الأدوار كما يلي: -إذا كانت الانتخابات عبارة عن مترشحين (أحزابا ومستقلين) وبرامج انتخابية بما تتضمنه من وعود وأحيانا مزايدات بهدف الإقناع والتأثير أو التخويف المبطن من بعض المتنافسين قصد الحصول على أكبر عدد ممكن من الأصوات وبالتالي نسبة كبيرة من المقاعد فإن الأمر يصبح على نحو معكوس. -لننطلق من التونسيين أي الناخبين ولنقل أنّ جانبا كبيرا منهم يعرضون كمنطلق أو كخيار وحيد في هذه المرحلة (الانتخابات كفرصة متاحة) حسم مسألة الانتماء عبر الهوية العربية الإسلامية المتجذرة كتعبير لها، منطلق يعرض ضمنيا على المترشحين فمن من الأحزاب يا ترى سيصوت في اتجاه الضمني ومن لديه استعداد لتبني الخيار كأساس للعمل والتعامل أي في سياق علاقة تفاعلية؟ وبالنظر إلى نتائج الانتخابات وتحديدا الفارق بين الأصوات التي حصلت عليها النهضة وبقية الأحزاب والقائمات المستقلة يظهر هذا التفاوت الكبير كدليل على أن الهوية كانت الكلمة المفتاح في الانتخابات.
البديل
الكلمة المفتاح كانت ضمنية في علاقة النهضة بقاعدتها وفي علاقة جانب كبير من الناخبين بها وهي علاقة استندت إلى فكرة قبْلية جاهزة وراسبة في الأذهان منذ أكثر من عقدين وربما تعود إلى جذور نشأة التيار الإسلامي في تونس حيث تتمحور الفكرة على أن النهضة هي البديل لنظام علماني قطع أشواطا كبيرة في تغريب الهوية (غربة واغتراب) وكانت هذه الانتخابات أول فرصة للتأكيد على هوية الشعب. ولعل ما حصل في إيران إلى حدود 1979 طيلة عهد الشاه من تحديث قسري ومحاولة كسر البنية التقليدية للمجتمع والارتماء في أحضان الغرب خصوصا سياسيا وثقافيا، أبرز دليل على ردة الفعل المكبوتة التي استثمرها الخميني وفجّرها في ثورة ليصبح رجال الدين فيها بديلا وليس بقية التيارات السياسية مثل حزب «تودة» الشيوعي وشخصيات مستقلة مثل أبو الحسن بني صدر أول رئيس بعد الثورة (من فيفري 1980 إلى جوان 1981) والذي تمت إزاحته بتهمة التحرك ضد رجال الدين في السلطة.
من نحن؟
لا شك أن فطنة النهضة وواقعيتها وفهمها للتونسي كانت وراء فوزها ولأنها في الآن نفسه نجحت في الإجابة عن سؤال مازال يطرح نفسه وهو:من نحن؟ وفي خضم «الإجابة» عن السؤال تراجع اليسار والقوميون والعلمانيون لأن طروحاتهم ربما لم تجب بما فيه الكفاية عما يبحث عنه جانب كبير من التونسيين. ويمكن القول أن تراجع تلك التيارات تحدد من جانب منه عند طرح مسألة الفصل الأول من الدستور حيث كانت العلمانية أثناء الجدل حوله أبرز ضحية، ذلك أن علمانية الدولة أو النظام السابق لم تكن تعني بالضرورة علمانية المجتمع وتشبع الشعب بهذا المفهوم الذي ما زال يُنظر له كدخيل على مجتمع عربي مسلم. وربما تماشى الشعب منذ الاستقلال مع جوانب في التحديث للخروج من التخلف وبناء أسس دولة حديثة وهو تحديث يبقى مفروضا والحال أن بين الشعب والحداثة ما يشبه القطيعة وعدم التواصل لدخول البلاد في مرحلة بناء، كان البناء الفكري فيها محدودا جدا ومنحصرا في التعليم وسرعة نسقه مع فقر في الحياة الفكرية وكبت الحريات وحصار الآراء المخالفة. وليس من قبيل المبالغة القول أن الدولة العلمانية ظل يُنظر لها من زاوية السلبيات والمظاهر والظواهر الاجتماعية حيث أضحت في المخيال الشعبي وكأنها رديف للتفسخ الأخلاقي وحصار الدين ومراقبة المصلين والمساجد وغطت على الفساد لتصبح دولة فساد.
استفتاء كامن بين السطور
هكذا لم تكن الانتخابات في حد ذاتها تصويتا على برامج بقدر ما كانت شبه استفتاء على الهوية، كان الاستفتاء كامنا بين سطور البرامج وبين ثنايا تصريحات المترشحين مترصّدا ويرصد كل تلميح أو تعبير لا يصب في مجرى الهوية. لقد حوّل جانب كبير من الناخبين مسار الانتخابات من مجرد مقاعد يتهافت عليها المترشحون بما فيهم من زعامات وسياسيون جدد يحاولون خوض غمار السياسة أو التأسيس لموطئ قدم فيها إلى مجال أعمق وأدق. كل هذا كان في سياق وجود تصورين أو قناعتين في ما يتعلق بهوية البلاد ومتطلباتها، فتونس المستقلة والإيالة السابقة التابعة للباب العالي أصبحت لها شخصية صاغ معلمها عهد بورقيبة وهو عبارة عن خيط رفيع يجمع بين الانتماء العربي الإسلامي والانفتاح على الغرب وتحديث على المقاس ولم يكن ذلك الخيط الرفيع سوى الخصوصيات التي كثيرا ما نتحدث عنها ونعتبرها أساسا ونخلط بينها وبين الهوية. وعلى مر العقود كنا نحاول التعايش مع شخصيتين واحدة تطفو وأخرى تتخفى حسب السياق والإطار..في نسق سمته التناوب وفي غالب الأحيان تكبت فيه الهوية العربية الإسلامية بدعوى مقومات الشخصية التونسية أو باسم الانفتاح وإيجاد أرضية مشتركة مع الآخر.
الأكثرية الصامتة
لقد جاءت نتائج الانتخابات كإجابة أولية عن أسئلة استعصت الإجابة عنها في الأيام الأولى للثورة وهي: من نحن، وماذا نريد؟ فقد حالت التوترات والتجاذبات والأجواء المحتقنة دون الإجابة، لكن هناك بالتأكيد أكثرية صامتة ليست بالضرورة التجمعيين أجابت في أول فرصة عن سؤال الهوية. أما فيما يتعلق بما يريده الشعب، فالمسألة ستكون في صلب المجلس التأسيسي أولا بصياغة دستور جديد وثانيا بتحديد النظام السياسي الضامن للديمقراطية وللحريات والمحاسبة والمساءلة وللتداول على الحكم بأسلوب حضاري في ظل احترام إرادة الشعب. الهوية وحدها لا تكفي للعيش في إطار دولة، إذ لا مفر من التعايش بين مختلف الأفكار والآراء والتعدد لا يعني مسبقا التناقض، والمؤكد أن هناك مراحل أخرى يتعين المرور بها لتصبح الانتخابات مظهرا في صيرورة مستحقة للمجتمع، وَلْنَسْمُ بمستوى النقاش والجدل وردة الفعل. لقد اتضح أن جملة من الأسئلة لم نعرف كيف نجيب عنها أو لم نحسن الإجابة عنها وهو ما يفرض إعادة النظر في جملة من المُسَلّمَات السّائدة قصد صياغة فكر تونسي تنويري، حداثي ومعاصر يعتمد على استعداد ذهني للهضم والتفاعل والتماهي، بعبارة أخرى لا بد من النظر إلى أنفسنا في مرآة واحدة بدل مرايا عديدة أخطرها بالتأكيد مرايا محدبة يغلب عليها تشويه صورة الأنا وتؤدي إلى تشويش في ذهن الآخر.