كاد المريب حول تهديد البريكي ووعيده طلع علينا السيد عبيد البريكي الناطق باسم الاتحاد العام التونسي للشغل في مناسبة صدور حكم من المحكمة يمنع السيد عبد السلام جراد من السفر. فقلنا: قد يقول لنا الرجل الفصيح ما لم تقله الأوائل تحقيقا لأهداف الثورة وإنصافا للمظلومين ودفاعا عن المحرومين بالقصاص من المجرمين المختلسين والبيروقراطيين المستكرشين. ولكنه خيّب الآمال وقرّب الآجال بتلبيس الأقوال وخلط الأفعال عندما تفاصح بالمحال وانتصر للمحتال. - قال إنه أستاذ عربية أوّل فوق الرتبة يبزّ المتنبّي في لغته ويهزّ عروش فطاحل العربيّة بجملته. فقلنا له: كيف فقت الرتبة؟ أفقتها بالمعرفيّ أم بالبيداغوجيّ؟ أم بكليهما معًا؟ أم تراك فقتها بقفز ميتافيزيقيّ وقول تنميقيّ؟ لقد تعلّمنا من العربية أنّ القيم لا تتجزّأ وأن الانتصار للفضائل يحتاج وقوفا دائما وإفاقة متّصلة لا انخراطا في ماكينة الفساد ولو كانت طاحنة. - قال إنّ الاضرابات المطلبية المتّقدة بُعيد الانتخابات هي إضرابات مشروعة وفاعلوها إنّما يستهدفون تحقيق مطالب قديمة. وبدا من قوله أنّ من واجبه، زعيما ملهَمًا، أن يقف في صفّ الشغالين المغبونين ضدّ الأعراف وكلّ من تنفّذ من الأطراف. قلنا: أحسنت قولا...ولكنّك لست في مقام من يقرّر. وبالأمس لمّا كان للمخلوع صولة لم تكن لك جولة ولم نسمع لصوتك بل لقد لتزمت صمتك، فكان أن خذَلَناَ اتحادُك بعد تخريبه وتغريبه وترهيبه وفضِّ الناس من حوله. وقد حجبت ومن معك فعل النضال دهرا إلاّ ما كان من غلبة بعض النقابات وقدرتها على ليّ ذراع المركزية النقابية التي يقول فيها الملاحظون ويطيلون القول. - قال إنّ الاتحاد قوّة وطنية عظمى تناضل من أجل الشعب التونسيّ، تحفظ مكاسبه وترمي خصومه. فقلنا له: كلام حقّ يراد به غيرُ الحقّ. فالاتحاد مؤسسة وطنية عريقة ناضلت ضدّ المستعمر وكافحت ضدّ الظلم والقهر. وتاريخه يشهد بما لا يحاكيه راهنه. ولا يمكن بأية حال من الأحوال اختزال الاتحاد العام التونسيّ للشغل في أشخاص من العاملين عليه ممن رضي عنهم المخلوع وأرضاهم فخلع عليهم من نعمائه وسلّطهم على أعدائه. الاتحاد فوق المفسدين الفاسدين وسيظلّ حصنا منيعا ضدّ الظلم والقهر والعسف والخسف. فلا تُلبس علينا فتصير أنت وجرادك الاتحادَ عينه... فإنّك في ذلك إنّما تسير سيرة المخلوع في سياسته، إذ كان لا يفصل بين الوطن وبينه، كما يفعل كلّ حاكم عربيّ اعتلى العرش اغتصابا فصار بديلا عن الوطن بأسره. وإذا تحدّث الحاكم فلا فرق في حديثه بين الوطن وبينه.. فهو هو، ولا فصل بين الدولة والحزب.. فهي هو، حتّى إذا ما خُلع الحاكم بأمره تبيّن ما كان محجوبا من قبحه قولا وفعلا. - لقد اعترف الرجل بانخراطه في ماكينة الفساد لمّا ووجه بخبر تدخّله لتسجيل ابنتيه في مؤسستين جامعيتين لا تسحقّان الدخول إليهما لمحدودية معدّليهما، ولم تدخلا إليهما إلاّ بفضل والدهما صاحب الفضل والفضيلة والمنافح عن العمّال الكادحين والمدافع عن المظلومين والمحرومين من أجل أن يسود العدل والرخاء وتتكافأ الفرص في المنافع. وكانت حجّته أنّه بذلك إنّما يقاوم تغوّل السلطة السياسية وتفرّدها في مسلك الفساد، فما دام الوزراء مفسدين فلا بأس أن يسير رجال الاتحاد سيرتهم ويفعلوا أفاعيلهم... فساد على فساد... وفي الفساد فليتنافس الفاسدون المفسدون... - هذا ما ظهر من سلوك المناضل الكبير فما ظنّكم بما خفيَ من أمره ولم يخف على الفيس بوكيين الذي لا ينامون ولا يتركون للصوص فجوة يتسلّلون منها، وقد اعتادت الثعالب نومة النواطير عنها دهورا... لذلك كان موقفه من الفيس بوك بذاك السوء الذي سمعنا... وضّاح هذا الفيس بوك فضّاح... وسلاح جادت به الحداثة على من لا سلاح له... ترك اللصوص في العراء وسلبهم حُجُبَهُمْ ونزع أقنعتهم، لذلك نسمع في كلّ حين من أهل الحداثة من يهاجم الحداثة باسم الحداثة... فحداثتهم عوراء عرجاء... الحداثة أن يريك الحداثوين ما يرون... وليس لك أن تجوز الحدود والقيود والسدود وإلاّ كنت عرضة للسبّ والشتم والخفض والرفع والهزّ والنفض وطُردت من ملكوت الحداثيين وأفُردتَ إفراد طرفة بن العبد... - فهل يحقّ لمن كان موضع ارتياب أن يقول قوله وأن يسمعنا من تهديده ووعيده ما سمعنا أضعافه من المخلوع في عبارته الشهيرة "بكلّ حزم" وتوأمها... على رسلك يا صاحب الوعيد، فالشعب المريد لا يخشى منك بل يخشى عليك. إنّه ليس لأيّ كان أن يهدّد تهديدك أو أن يوعد وعيدك. فلقد مضى عصر العبيد يؤمرون فيطيعون. ولست أرى الشغالين بالفكر والساعد في البلاد عبيدا لعبيد يأتمرون بأمره وينتهون عند نهيه... اُصحُ أيها الوسنان. فلقد فاتك القطار، وذهب ماؤك بذهاب حامي حماك ودينك... إنها الثورة يا مولاي على حدّ عبارة الدكتور منصف المرزوقي ذات كتاب. - لعلّ من المفيد أن نعود بالسيد عبيد إلى بداية التسعينات لنذكّره، وهو أستاذ التعليم الثانويّ الأوّل فوق الرتبة، بالمجلس القطاعيّ للتعليم الثانويّ الذي انتهى منه المجلسيون إلى عريضة نادوا فيها بحلّ نقابة التعليم الثانويّ العامّة لسحب البساط من تحت النقابيّ المعروف أحمد الكحلاويّ، وقد صار السيد المحتَرَم عبيد بمقتضى ذلك عضوا بالكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسيّ زمن السحباني الذي استعمله المخلوع لتهشيم المنظّمة العتيدة وتحجيم دورها وترويضها بجعلها نقابة مساهمة يراد لها نسيان استقلاليتها شرط قوّتها وركوب موجة السلطة السياسية لترويض القاعدة العمالية وضرب آخر أجهزة المناعة بالبلاد. - ألا يدرك السيد عبيد ومن سار على نهجه أنّنا في زمن الثورة؟ والثورة تجبّ ما قبلها... الثورة قامت لتفكّك نظام الاستبداد والفساد وتبنيَ جمهورية الشعب العظيم لا لتعيد إنتاج المنظومة القديمة. ولقد كانت نسخة الاتحاد من أدوات المنظومة القديمة تلك... أصابها الخلل واستشرى بها الفساد ظاهرا وباطنا، في السطوح وفي الأعماق. - الثورة يا سادة لا تقبل أن يتحدّث أحد باسم غيره ولا أن يصادر أحد رأي سواه... ولا تقبل أن يهدّد أحدٌ أحدًا... إنّ الاتحاد العامّ التونسيّ للشغل فوق الشبهات... وليس لأيّ كان أن يستأثر به لنفسه ولا أن يتحدّث باسمه ويستتر بخيمته ما لم يكن صادقا في قوله نقيّا في سيرته منزّها عن الشبهات طوال مسيرته... وليس لأحد أن يؤذيَ غيره بالمنّ والأذى... فلا فضل لأحد على أحد... وسيعلم الذين أفسدوا أيّ منقلَب سينقلبون... الشعب يريد ولا رادّ لما أراد الشعب المريد... الشعب هو الحاكم وهو الحَكَم... و ما دونه سراب بقيعة... لا غير... وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض... نورالدين الغيلوفي