استفزّني مقال للرأي صدر على صفحات جريدة " الجرأة" في عددها 16 ليوم 17 نوفمبر 2011 تحت عنوان " اللجنة العليا للصفقات مصدر تمعّش للنظام السابق" لكاتبه أبو معتزّ سمح لنفسه من خلاله التهجّم للمرّة الثانية على اللجنة العليا للصفقات و نعتها بأنّها من صنع الرئيس المخلوع بن علي و هي آداة يشرّع بها فساده و فساد عائلته و هي وسيلة للإستثراء غير الشرعي ولنهب أموال الدولة. و لنا عن هذا المقال ملاحظات و مؤاخذات عديدة: و لا مناص هنا من التذكير بأنّ حملة التشويه قد انطلقت على إثر التصريح المريب الذي أدلى به الوزير الأوّل الأسبق محمّد الغنّوشي لدى القنوات الفضائيّة الأجنبيّة و الذي أعلن فيه عن عدم مسؤوليّته عن القرارات الصادرة عن اللجنة العليا للصفقات على الرغم من أنّه هو رئيسها قانونا و هو الذي يشرف شخصيّا على جلسات العمل الوزاريّة التي تلتئم بمناسبة النظر في العديد من الصفقات التي أعطى فيها الإذن بإسنادها خلافا للتراتيب القانونيّة و نذكر من بين هذه الصفقات المشبوهة و التي تمّ ذكرها في تقرير اللجنة الوطنيّة لتقصّي الحقائق حول الفساد و الرشوة صفقة مدينة الثقافة و صفقة مدّ خطّ المترو الخفيف إلى المروج و أيضا صفقات طريق السيّارة صفاقس- قابس. و تبلغ قيمة هذه الصفقات حوالي 500 مليون دينار. و على الرغم من أنّ اللجنة العليا للصفقات تمثّل اللجنة الوحيدة "المستقلّة" عن أي مشتري عمومي و هي تمارس رقابتها على الصفقات العموميّة أفقيّا شأنها شأن بقيّة هياكل الرقابة التي تتمتّع بأنظمة أساسيّة خصوصيّة تضمن استقلاليتها إلاّ أنّها لم تكن مستقلّة بالمرّة و لا يتمتّع مقرّروها بالاستقلالية و لا بالحماية الضروريّة الدنيا لأداء مهامهم على الوجه الأكمل بل على العكس من ذلك تماما، حيث كانت هذه اللجنة العليا، و على الرغم من قدمها ( تأسّست منذ 1965)، غير مستقلّة عن العمل السياسي و عن رئاسة الجمهوريّة التي كانت تتدخّل بطريقة مباشرة و غير مباشرة منذ 1992 – تاريخ زواج بن علي من ليلى الطرابلسي- في اسناد الصفقات العموميّة بطرق غير قانونيّة لا تحترم فيها التراتيب الجاري بها العمل في هذا المجال متجاوزة آراء اللجنة العليا للصفقات إلى أن أصبح التدخّل مباشرا و علنيّا على إثر إنهاء مهام رئيس اللجنة العليا للصفقات و تعويضه سنة 2004 بمكلّف بمأموريّة لدى الوزير الأوّل للإشراف على اللجنة العليا للصفقات و هيئة المتابعة و المراجعة في الصفقات العموميّة ( محسن العروي) و الذي شغل خطّة مستشارا برئاسة الجمهوريّة كلّف من قبل الرئيس بن علي بإعداد الصفقات على قياس من يدفع رشوة أكثر للرئيس و من معه منذ الإعلان عن طلب العروض إلى إسناد الصفقة و كان هذا الشخص يتفنّن في شيئين أوّلهما صياغة مشاريع الصفقات يرفعها لرئيس الجمهوريّة و لمستشاره الإقتصادي المنجي صفرة مهيّئة حسب طلبات الرئاسة و مخالفة رأي اللجنة التي كلّف بالإشراف عليها أمّا المهمّة الثانية و هي الأفضع أنّه يدخل تنقيحات على الأمر المنظّم للصفقات العموميّة لكي تتمكّن بعض الشركات التي تتعامل مع الرئيس المخلوع من المشاركة و الفوز بالصفقات وفقا لتراتيب ضبطت على مقاسها. و يستفاد ممّا تقدّم بأنّ المقال الذي كتبه أبو معتزّ ينمّ عن عدم دراية بخفايا إسناد الصفقات في فترة الرئيس المخلوع و جهل تامّ باللجنة العليا للصفقات و سير أعمالها و الضغوطات التي كانت تمارس على مقرّريها من قبل المكلّف بمأموريّة السابق لدى الوزير الأوّل أو الكاتب العامّ للحكومة السابق الذي تفنّن بدوره في توجيه الطلبات العموميّة و في إسداء تعليماته لرؤساء اللجان بإصدار أراء اللجنة وفقا لطلبات الرئاسة و هو الذي كان يؤشّر على إسناد الصفقات وفقا لتعليمات الرئيس المخلوع و خلافا لآراء اللجنة. و لتنفكّر جميعا أنّ مصالح الرقابة العامّة للماليّة قد قامت في عهد الرئيس المخلوع بالعديد من مهمّات الرقابة للمنشآت العموميّة و للمنظّمات و الجمعيّات من بينها جمعيّة "بسمة" التي كانت ترأسها ليلى بن علي و كذلك منظّمّة أمّهات تونس التي ترأستها السيّدة العقربي و المنشآت العموميّة على غرار الديوان الوطني للمطارات و الوكالة الوطنيّة للتصرّف في النفايات و خطوط تونس الجويّة التي تبيّن بعد الثورة سوء تصرّفها في الأموال العموميّة في حين أنّنا لا نجد أثرا لهذه المسائل في التقارير الصادرة عن مصالح الرقابة العامّة للماليّة و هو ما يبيّن عدم كفاءة هذه المصلحة للإضطلاع بمهمّة الرقابة في مجالها فما بالك برقابة الصفقات العموميّة و هو مجال بعيد عن إختصاصها. و في هذا كلّه نقول أنّ إتّهام هيكل رقابي قام بواجبه الوطني قبل الثورة و بعدها و واصل آداء مهامه على الرغم من الضغوطات الخارجيّة التي تمارس عليه بكلّ تفان و مسؤوليّة لا ينمّ على وطنيّة صاحب المقال و إذا كانت هناك مؤيّدات تدعّمهذا الإتّهام فلماذا لا تلتجئ إلى القضاء. إنّ هذه الإدّعاءات لا يمكن أن تبوّب ضمن حريّة التعبير بل تعدّ مسّا لهيئة عموميّة تابعة للوزارة الأولى يمكنها أن تردّ عليها من خلال اللجوء إلى القضاء و لكنّني أعتقد أنّ أفضل حلّ هو فتح حوار وطني حول الفساد في الصفقات العموميّة و كيفيّة التصدّي إليه.