القيروان: إزالة توصيلات عشوائية على الشبكة المائية في الشبيكة    بالفيديو: مطار طبرقة الدولي يستعيد حركته ويستقبل أول رحلة سياحية قادمة من بولونيا    عاجل: أمر مفاجئ من ترامب: على الجميع إخلاء طهران فورا    في 5 سنوات.. 11 مليار دولار خسائر غانا من تهريب الذهب    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية للترجي الرياضي في مواجهة فلامينغو    كأس العالم للأندية: تعادل مثير بين البوكا وبنفيكا    اسرائيل تتآكل من الداخل وانفجار مجتمعي على الابواب    عاجل : ترامب يدعو إلى الإجلاء الفوري من طهران    كاس العالم للاندية 2025: تشلسي يفوز على لوس انجلس بثنائية نظيفة    بعد تسجيل 121 حريقا في 15 يوما.. بن الشيخ يشدد على ضرورة حماية المحاصيل والغابات    ميناء جرجيس يستقبل أولى رحلات عودة التونسيين بالخارج: 504 مسافرين و292 سيارة    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    في اصدار جديد للكاتب والصحفي محمود حرشاني .. مجموعة من القصص الجديدة الموجهة للاطفال واليافعين    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    أخبار الحكومة    انطلاق الحملة الانتخابية بدائرة بنزرت الشمالية    المنتخب التونسي للكرة الطائرة يفوز وديا على المنتخب الايطالي الرديف 3 - 1    بورصة: تعليق تداول اسهم الشركة العقارية التونسية السعودية ابتداء من حصّة الإثنين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    منظمات تونسية تدعو سلطات الشرق الليبي إلى إطلاق سراح الموقوفين من عناصر "قافلة صمود".. وتطالب السلطات التونسية والجزائرية بالتدخل    طقس الليلة    تونس تعزز جهودها في علاج الإدمان بأدوية داعمة لحماية الشباب واستقرار المجتمع    إسناد العلامة التونسية المميزة للجودة لإنتاج مصبر الهريسة    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    عاجل/ وزير الخارجية يتلقّى إتّصالا من نظيره المصري    "تسنيم": الدفاعات الجوية الإيرانية تدمر مقاتلة إسرائيلية من طراز "إف 35" في تبريز    اتحاد الشغل يدعو النقابيين الليبيين الى التدخل لإطلاق سراح أفراد قافلة "الصمود"    تونس تدعو إلى شراكة صحّية إفريقية قائمة على التمويل الذاتي والتصنيع المحلي    نحو إحداث مرصد وطني لإزالة الكربون الصناعي    جندوبة: اجلاء نحو 30 ألف قنطار من الحبوب منذ انطلاق موسم الحصاد    العطل الرسمية المتبقية للتونسيين في النصف الثاني من 2025    عاجل/ باكستان: المصادقة على مشروع قرار يدعم إيران ضد إسرائيل    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    تأجيل محاكمة المحامية سنية الدهماني    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    189 حريق خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية….    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    النادي الصفاقسي: الهيئة التسييرية تواصل المشوار .. والإدارة تعول على الجماهير    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دولة الإسلام وحريّة الآخر(1/7)


حارث عبد الحميد الشوكاني


الإسلام دين السلام والحريّة والتسامح والعدل لا دين العنف والإرهاب وسفك الدماء؛ فلا إكراه في الإسلام ولا ظلم ولا طغيان، بل حفظ لمعتقدات الآخرين ولنفوسهم وأموالهم؛ فالمبادئ القرآنيّة التي دعت إلى عدم الإكراه وحرية المعتقد تمّ تجسيدها في الدولة الإسلاميّة عبر التاريخ الإسلاميّ ابتداء من زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عبر المعاهدة التي أبرمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع يهود المدينة، والتي كانت أول وثيقة سياسيّة ودستور سياسيّ يقوم على القبول بالآخر والتعدّد الديني، وكذلك معاهدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع نصارى نجران، وقد سار على نفس النهج الخلفاء الراشدون والصحابة والمسلمون عبر تاريخهم؛ حيث عاش اليهود والنصارى في كنف الدولة الإسلاميّة محترمة عقائدهم ودور عبادتهم، مصونة نفوسهم وأموالهم.
لكن ثقافة عصور الانحطاط وفتنة التأويل المجوسي للإسلام الذين -بمجرد سقوط الإمبراطوريّة الفارسيّة- رفعوا شعار (عجزنا عن مقاتلتهم على التنزيل فسنقاتلهم على التأويل)، وقد أكد القرآن خطورة فتنة التأويل المجوسيّ بقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ). هذه الفتنة شوّهت تعاليم الإسلام العظيمة، وأصابت العقليّة الإسلاميّة بأزمة منهجيّة تولّد عنها أزمة معرفيّة، وكان أحد مظاهر هذه الأزمة هو الزعم بأن آية السيف في القرآن قد نسخت كافة الآيات المتعلقة بحرية المعتقد وعدم الإكراه في الدين وإظهار مفهوم القتال في الإسلام، وكأنه وسيلة من وسائل الدعوة، وأداة من أدوات تغيير معتقدات الآخرين وأفكارهم ومبادئهم، وقد شاع هذا المفهوم في تراثنا الفقهيّ المكتوب حتى تمّ تقسيم المجتمعات إلى دار سلام (دار الإسلام) ودار حرب (ديار الكفر)، بما يجافي المبادئ القرآنيّة المحكمة الداعية لعدم الإكراه (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، الآمرة بحسن التعامل مع المخالفين لنا في العقيدة إن لم يعتدوا علينا، ويشرعوا في قتالنا (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وبما يجافي الواقع التاريخي الإسلاميّ عبر السنة العمليّة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي أقوى من السنة القوليّة في تعامله مع أهل الكتاب والممارسة العمليّة للخلفاء الراشدين والصحابة -رضوان الله عليهم- الذين قال الله فيهم: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
ولأهميّة هذا الموضوع وخطورته سأوضح مفهوم القتال في الإسلام تأصيلاً وتفصيلاً لبيان فلسفة القتال في الإسلام، وأبين بطلان القول بأن آية السيف نسخت سماحة الإسلام وعدالته بما يدرأ عن هذا الدين العظيم تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين بإذنه تعالى؛ بالتطرق لهذا الموضوع من عدة زوايا على النحو التالي:
أولاً: حرمة النفس البشريّة في المنظور القرآني.
قال تعالى في آية من أعظم آيات القرآن: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). [المائدة:32].
فهذه الآية العظيمة تبيّن بجلاء مدى كراهيّة الإسلام لسفك الدم ومدى المكانة العظيمة للنفس البشريّة في ديننا الإسلاميّ العظيم؛ إذ اعتبر قتل النفس البشريّة بمثابة قتل الناس جميعًا وإحياء النفس البشريّة من خطر يتهدّدها بالقتل بأنه إحياء للناس جميعًا. فهل هناك مكانة للنفس البشريّة تفوق هذه المكانة، وأنّ أيّ مسلم واعٍ يقرأ هذه الآية يتردّد ألف مرة في سفك دم أي إنسان إن كان له سمع وبصر وفؤاد؟
والملاحظ في هذه الآية الكريمة أنها عمّمت (مَن قَتَلَ نَفْساً)، ولم تقل نفس مؤمن، وهذا دليل على حرمة قتل النفس البشرية بشكل عام أيًّا كان المعتقد أو الدين.
وقد يقول قائل إن هذه الآية وردت في سياق بني إسرائيل (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)، والجواب هو أن أصول الشرائع السماويّة التي تطلق عليها الكتب السماويّة الوصايا العشر هي واحدة وثابتة، والسرّ في ذلك أن قوانين وسنن التشريع تأتي مطابقة وموافقة لسنن وقوانين الفطرة الإنسانيّة، وسنن وقوانين الفطرة ثابتة لا تتبدّل؛ فكانت الشرائع ثابتة من ثباتها، يفهم ذلك من قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). [الروم:30].
فهذه الآية طلبت منّا بأن نقيم وجوهنا للدين ولسننه وقوانينه الهادية الآمرة، ثم علّلت ذلك بموافقة هذه الشرائع لسنن الفطرة (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، ثم أكّدت أن قوانين وسنن الفطرة لا تتبدّل (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)، وبهذا يتضح لنا أن الشرائع السماويّة عبر التاريخ الثابتة في مضمونها هي المنهج العلمي الناظم للحياة الإنسانيّة، وسرّ هذه المنهجيّة العلميّة هو موافقة سنن التشريع لسنن الخلق والفطرة.
ويتعزز هذا الفهم بمنهجيّة تفسير القرآن بالقرآن بأن أصول الشرائع السماويّة (الوصايا) ثابتة عبر التاريخ بقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ). [الشورى:13]، فصريح هذه الآية أكّد بدلالة قطعيّة محكمة ثبات أصول الشرائع (الوصايا) (ما وصى به نوحًا) ابتداءً من نوح -عليه السلام- وانتهاءً بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ومرورًا بإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
ويتعزز هذا الفهم بمنهجيّة تفسير القرآن بالقرآن بالآيات التي وردت في سورة الأنعام متضمنة للوصايا العشر ولأصول الشرائع السماوية في قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{151} وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
فهذه الوصايا العشر التي تمثل أصول التشريع منذ بدْء الخليقة، وهي نفسها الواردة في التوراة والإنجيل، وقد أطلق عليها القرآن هذه الصفة (الوصايا) في عدة مواضع (مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)، (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وفي سياق هذه الوصايا نجد الشاهد على حديثنا وهو قوله تعالى. (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)؛ فهذا النص حرّم قتل النفس البشريّة عمومًا، وفي سياق عام للمسلمين وغيرهم، ويتعزّز هذا الفهم بمنهجيّة تفسير النص بالنص بقوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً). [الإسراء:33].
ثانيًا: الإسلام نهى عن القتال ابتداءً واعتداءً وأمر به لرد الاعتداء
يقول تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). [البقرة:216]، فهذه الآية قد أوضحت بدلالة صريحة أن القتال قد كُتب على المسلمين، وأن القتال أمر مكروه غير محبب للنفس البشرية، لكن الله يوضح لنا أنه في ظروف معينة يكون القتال خيرًا (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)، وكون الإسلام قد كتب على المسلمين القتال فلا يعني هذا تسويغ القتال في الإسلام بشكل مطلق، بما يبيح للمسلمين الاعتداء على الآخرين في حرية معتقداتهم وأنفسهم وأموالهم، بل كتب الله القتال على المسلمين من باب الدفاع عن النفس ورد الاعتداء لقوله تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ).[البقرة:190]،
فصريح هذه الآية قد أكد فلسفة القتال في الإسلام بالنهي عن الإعتداء ابتداء (وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ)، وشرعيّة القتال لمن قاتلنا ابتداءً واعتدى علينا (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ).
ويتعزز هذا الفهم بقوله تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). [البقرة:194].
وإباحة القتال بهذه الصورة يأتي في إطار حقّ المقاومة والدفاع عن النفس، وهذا الحق يصون حرية الإنسان وكرامته؛ لأنه يشكل قوّة ردع تمنع المعتدي عن الاعتداء، ومن هنا تأتي خيريّة القتال المقصودة في قوله تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ).
كما أن ردّ الاعتداء على المعتدي هو خير ضمان لإشاعة السلام والأمن في المجتمعات والدول لمنع شيوع الجريمة في المجتمع بردع الظالم عن ظلمه، وعلى هذا الأساس تقوم فلسفة العقوبة في الأديان السماويّة وفي الإسلام. في حين أن العقوبة إذا لم يتوافر فيها عنصر الردع للجريمة فستؤدي إلى شيوع الجريمة، نلحظ ذلك في بعض المجتمعات الغربيّة التي منعت عقوبة القتل للقاتل بحجة أن قتل القاتل عقوبة بشعة، واكتفوا بعقوبة السجن المؤبّد، حيث نجد نسبة ارتفاع الجريمة في تلك المجتمعات بشكل ملحوظ ، وخير ردّ على مثل هؤلاء هو أن المعيار هو قياس عنصر المصلحة والمفسدة على المجموع؛ فكما أن الفرد إذا فسد عضو من أعضائه كالإصابة بالسرطان مثلاً فتقتضي مصلحة الجسد -بشكل عام- بتر هذا العضو عن الجسد حتى لا يدبّ الفساد في الجسد كله، ولو كان هذا الإجراء قاسيًا، وكذلك الجريمة في المجتمع إن لم يكن لها عقوبة رادعة سرعان ما تشيع وتفسد المجتمع بأكمله، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). [البقرة:179]، أي أن القصاص وردّ الاعتداء بمثله يشكّل عامل ردع للجريمة تؤدي إلى السلام وحفظ الأمن على مستوى المجتمع بشكل عام، أما ترك القتلة والمجرمين دون رادع وعقوبة مناسبة فمن شأنه تشجيع هؤلاء على المزيد من القتل، ولذلك قال البعض: (القتل أنفى للقتل).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.