بينما كان عام 1432 هجريًّا يلملم أوراقه ويطوي صفحاته الأخيرة، جاء توقيع الرئيس اليمني "علي عبد الله صالح" على المبادرة الخليجيَّة، وبالتالي تنازله عن السلطة لنائبه، ليصبح الحاكم العربي الرابع الذي يغادر الحكم خلال هذا العام، حيث سبقه في ذلك الرئيس التونسي "زين العابدين بن علي"، والمصري "حسني مبارك"، والليبي "معمر القذافي"، فيما يصارع الرئيس السوري "بشار الأسد" ثورة شعبيَّة هائلة، راح ضحيتها حتى الآن ما يقرب من 5 آلاف شهيد. "الشرارة الأولى" لربيع الثورات العربيَّة انطلقت من تونس، حيث تحوَّلت النيران التي أشعلها "محمد البوعزيزي" في جسده إلى "وقود" لثورة شعبيَّة امتدت لمختلف أنحاء تونس، ولم تفلح محاولات نظام "بن علي"، سواء العنيفة أو الاسترضائيَّة في احتواء تلك الثورة، ليضطرّ في النهاية إلى الفرار من البلاد، التي حكمها لما يقرب من ثلاثة عقود، معتمدًا على قبضة أمنيَّة باطشة، وأداء اقتصادي يوفّر للشعب "حدّ الكفاف" مقابل الصمت عن سلب حرياته، لكن تفشي الفساد قضى على ذلك التوازن، ليخرج الشعب مطالبًا بالخبز والحرية في آنٍ واحد. "كلكم تونس" ويبدو أن ما حدث في تونس، المعزولة نسبيًّا عن مراكز الثقل في العالم العربي، لم يتم استيعابه داخل أروقة الحكم العربيَّة بالشكل الكافي، حيث خرج أكثر من مسئول ليؤكد أن "بلاده ليست تونس.. وأن السيناريو التونسي غير قابل للتكرار"، لكن تلك الثقة كانت تخفي خلفها أنظمة مهترئة وغارقة في الفساد والفشل، وهو ما أثبته عمليًّا آلاف من الشباب المصري الذي نزل بشكل سلمي إلى الشوارع، مكررين نفس مطالب الشعب التونسي: " تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعيَّة". وخلال 18 يومًا كان نظام حسني مبارك العتيد قد أصبح "أثرًا بعد عين"، خاصَّة بعدما انحاز الجيش إلى جانب الشعب الثائر، ليصبح الرئيس العجوز، الذي أمضى ثلاثة عقود في الحكم، وحيدا محاصرا في قصره، بعدما انهارت أجهزته الأمنية بشكل دراماتيكي مع الأيام الأولى للثورة، وهو ما اضطره في النهاية ليسلم مقاليد الحكم إلى الجيش، متصورًا أنه بذلك سيتمكَّن من الاستجمام بقية حياته في قصره الفخم ب "شرم الشيخ"، لكن الشعب الثائر أبي إلا أن يُساق الحاكم المعزول إلى قفص الاتهام ليحاكم هو وحاشيته عن جرائمه في حق الشعب، ليصبح "مبارك" أول رئيس عربي يحاكم أمام قضاء بلاده عن جرائمه في حق الوطن. "جنون القذافي" ولعلَّ مشهد "مبارك خلف القضبان" كان أحد الأسباب التي دفعت العقيد الليبي معمر القذافي لخوض حرب ضارية ضد شعبه من أجل الحفاظ على العرش، الذي يحتله منذ 44 عامًا، لكن القذافي، الذي تستعصي شخصيته وتصرفاته على أي تحليل علمي أو نفسي، كان يدرك في نفس الوقت أن حجم الجرائم التي ارتكبها في حق ليبيا والليبيين يفوق قدرة أي إنسان على الصفح. كما أن "جنون العظمة" المسيطر على الرجل جعله يتوهم أن بمقدوره النجاة هذه المرة أيضًا، مع أن "الدائرة كانت مغلقة تمامًا"، حيث أن كل خصومه والمتضررين من جنونه، وجدوا الفرصة سانحة لإغلاق تلك الصفحة المؤلمة، ليس فقط بالنسبة لليبيين، وإنما للبشرية بأكملها. "دهاء صالح" "غرور القذافي"، الذي انتهى به للموت على أيدي الثوار، بعدما عثروا عليه مختبئا داخل "أنبوب للصرف الصحي"، هو ما تجنبه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، حيث أدرك منذ البداية أن رحيله عن السلطة لا مفرّ منه، خاصةً بعدما أبدى شباب الثورة صمودًا أسطوريًّا في الميادين، وتحملوا في سبيل ذلك مئات الشهداء وآلاف المصابين. ولذا فإن صالح سعى باستماتة للحصول على ضمانات بعدم ملاحقته هو أو حاشيته بعد مغادرته للحكم، كما حدث مع مبارك في مصر، بل إنه لم يكتف بذلك، إذ فاوض باستماتة لضمان بقاء حزبه والمقربين منه في الحكم، وبذلك ضمن -من ناحية- استمرار نفوذه حتى بعد مغادرته للحكم، ومن ناحية أخرى ضمن ولاء المقربين منه حتى اللحظة الأخيرة، باعتباره الوحيد القادر على التفاوض للحفاظ على مناصبهم ونفوذهم. وبالطبع لم يتمكنْ صالح من تحقيق كل ذلك اعتمادا فقط على دهائه، وإنما وظّف أيضًا شبكة العلاقات الإقليميَّة والدوليَّة التي بناها في السنوات الأخيرة، حيث استطاع الترويج لنظامه ك "حائط صدّ" و"جبهة دفاع متقدّمة" لمنع توغل تنظيم القاعدة في اليمن، وبالتالي النفاذ منها إلى شبه الجزيرة العربيَّة والقرن الإفريقي، هذا مع أن صالح نفسه هو الذي فتح أبواب اليمن أمام عناصر التنظيم، أو على الأقل غضّ الطرف عن وجودهم. "نسائم الحريَّة" الهجرة العربية نحو الحرية لم تقتصر على هذه البلدان الأربعة، حيث شهدت البحرين احتجاجات واسعة من قبل المعارضة الشيعية، لكن وعلى عكس ما شهدته "دول الربيع العربي"، فإن السلطة أبدت تجاوبا واضحا مع مطالب المتظاهرين، وأعطت وعودًا بتنفيذ معظمها، لكن المتظاهرون صعدوا من تلك المطالب، حتى وصلوا إلى "نقطة حرجة" أثارت قلق دول الجوار، كما أن السنة في البحرين شعروا بأنهم مستهدفون، ولذا انتقلت السلطة من مرحلة الاحتواء إلى مرحلة القمع، وعندما أدركت المعارضة أن المكاسب تتسرب من بين أيديها، حاولت التخفيف من سقف المطالب، لكن الوقت كان قد تأخر، وعادت الحكومة لتمسك بزمام الموقف مرة أخرى، وبدأت في فتح نوافذ للحوار الوطني، وصولا إلى "خريطة طريق" للإصلاح تحظى بتوافق شعبي، هو ما لم يتبلورْ حتى الآن. أما بالنسبة لسلطنة عمان، فإن السلطان قابوس بن سعيد أبدى حنكة كبيرة في التعامل مع موجة الاحتجاجات التي شهدتها بعض المدن، وتعد مظهرا غير مألوف في بلد اشتهر بالهدوء الشديد، وتجلت حنكة السلطان في أن قراراته كانت سريعة وحاسمة، وتلبي معظم مطالب المحتجين، خاصة فيما يتعلق بعزل بعض الشخصيات التي تلاحقها شبهات فساد، أو علاج بعض المظالم الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بالبطالة وتدنّي أجور بعض الفئات، وهو ما ساعد على حصر حركة الاحتجاجات في نطاق ضيق للغاية، ثم سرعان ما هدأت الأمور تماًما. "تحرّك سريع" وقريبًا من هذا السيناريو جاء تعامل العاهل المغربي مع حركة الاحتجاجات، حيث سارع لطرح تعديلات دستوريَّة تحد من سلطته، وتضيف لصلاحيات وسلطات الحكومة والبرلمان، ويلاحظ أن التحرك السريع في كل من عمان والمغرب ساعد على بقاء مطالب المحتجين في إطار الإصلاح السياسي والاجتماعي، وحال دون تطورها لتشمل شرعيَّة الحكم نفسه، وهو نفس ما يحاول النظام الأردني فعله، لكنه فشل حتى الآن في طرح صيغة مقبولة للإصلاح، مما يهدد بارتفاع سقف المطالب، ليشمل تركيبة النظام نفسه. أما الوضع في سوريا، فإنه بالغ التعقيد، إذ اقتصرت مطالب المتظاهرين في البداية على الإصلاح وتعميق الديمقراطيَّة، وعندما قابل النظام ذلك بالقمع الشديد، تطوّرت الأمور لتشمل المطالبة بإسقاط النظام، ثم بدأ الجيش في التفكُّك، عبر انشقاق العشرات من الجنود وصغار الضباط، لتأخذ الاحتجاجات طابعا مسلحا في بعض المناطق، وهو ما يخشى معه انزلاق البلاد لحرب أهليَّة، خاصة بعدما حصلت المعارضة على تأييد واسع عربيًّا ودوليًّا، فيما يراهن النظام –حتى الآن- على معادلة إقليميَّة ودوليَّة توفِّر له مظلة للحماية، وتحول دون أي تدخل عسكري خارجي، لكن صمود تلك المعادلة محلّ شكّ الكثيرين. مصدر الخبر : البشير للأخبار a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=23546&t=1432ه .. عام "الهجرة" إلى الحريَّة&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"