أفقت على جلبة وضوضاء، وعلى صوت قائد الطائرة يخبر الحجيج بقرب ميقات الإحرام، ونظرت عن يساري فرأيت الكثير منهم قد تجردوا من ثيابهم، وارتدوا لباس الإحرام، واستعدوا لنيّة الإحرام بالحج من الميقات، ولاحظت شابا يجلس في الصف الأيسر، وعن يساره والدته يشير بكليتي يديه إلى الفتاة التي تجلس عن يساري، يدعوها لتساعد والدها على خلع ملابسه، ولبس ثيّاب الإحرام، وتسألني البنت وهي في منتهي الدهشة، كيف يمكنني أن أقوم بنزع ثيّاب والدي أمام الحجيج؟ بل كيف يمكنني نزع ثيّابه وإلباسه لباس الإحرام في بيت الرّاحة التي لا تَتَّسع لاستيعاب شخص واحدٍ فَمَا بَالُكَ بِشَخْصَيْنِ؟ فقلت لها هوّني عليك، ولا تخافى ولاتجزعى، فَلِكُلِّ حادثةٍ حلٌّ و"للضَّرُورَةِ أَحْكَامُهَا" و"الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتْ" و"المَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ" وحالة والدك تدخل في حكم الضّرورة والمشقّة، وقد أفتى شيخنا المصلح والمجاهد محمد الطاهر بن عاشور بإمكانية الإحرام من جدة، بكل ما يتطلبه من اغتسال وارتداء للباس الإحرام دون أن يترتب عن ذلك أي شيء تجاه الحاج، وكأنّها لم تصدق كلامي، فأخرجت لي دليل الحاج في طبعته الجديدة لحج هذه السنة، فهي طبعة عهد الثورة، فقرأت فصل الإحرام ، وفوجئت بما جاء فيه من القول بأن المحرم بإمكانه أن ينوي الإحرام في الطائرة، ويتجرد من ملابسه في مطار جدة، ويلبس لباس الإحرام وعليه هدي.وقلت في نفسي لماذا هذا النكوص إلى الوراء، وتساءلت بيني وبين نفسي أَ لهذه المراجعة علاقة بالسياسة؟ أو كلما جاءت أمة لعنت أختها؟ وماعلاقة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بسياسات العهد البائد الفاسدة والمستبدة ؟ وما الجرم الذي ارتكبه حتى تُغَيَّبَ فتواه ؟ ألأن رأيه كان المعتمد في العهد السابق في مسألة الإحرام ؟ وما العيب في ذلك ؟ أليس هذا الرأي من الأقوال الوجيهة والمُيَسِرة على الحاج؟ وفقه الحج يتطلب التيسير وقد سبقه إلي هذا القول الشيخ بن عرفة في فتوى تهمّ قاصدي الحج عبر البحر، ألم يعلموا أن الشّيخ لم يهادن في قول الحق أحدا أبدا ؟ ألم يقف شيخنا الموقف المشرف والشجاع حين دعا "الحبيبُ بورقيبة" الرئيسُ التونسي الأسبق العمَّالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيّادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بما يريده الله تعالى، بعد أن قرأ آية الصيَّام، وقال بعدها: "صدق الله وكذب بورقيبة"؟ وكان ذلك عام 1961م. لم تكتفي البنت بالاطمئنان لأقوالي، فأوقفت مرشدا دينيا من مرشدي البعثة كان مارًّا بجانبي، وسألته عن فتوى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في موضوع الإحرام من جدة، فتبرّم صاحبنا وأجابها بأَنْ لا علم له بهذه الفتوى البَتَّةَ، وحين أكّدت له وجودها، واعتمادها كفتوى رسمية في السنوات الفارطة من وزارة الشؤون الدينية ، والتّنصيص عليها في دليل الحاج للسّنوات الفارطة، استغرب صاحبنا وردَّ بكونه لا علم له بذلك، وبقيت البنْت شاردَةَ الذِّهْنِ، تبحث عن حَلٍّ لمشكلة أبيها، وإذا بالمرأة التّي تجلس وراءها تشير عليها بنزع خاتمها، على اعتبار أنّه ينقض الإحرام، فتلتفت المسكينة التي لم تجد الجواب الشافي لمشكلة والدها، لتسألني عن لبس الخاتم للنّساء في الإحرام.