عُرف في الأزمنة الغابرة أنَّ بعض القبائلِ العربيةِ كانت عندما تفتقدُ أحدَ ذَوِيهَا و ليس لهذا الأخير من بَوَاكِي، أو كان ذا سَطوةٍ وجاهٍ وَجبَ إبْرَازُهُما عِندَ فَقْدِهِ، استأجرتْ امرأةً تبكِيهِ وتُعَدِّدُ مَناقِبَهُ، و لا تدّخرُ هذه النائحةُ جهدًا في زيادةِ النَّكَدِ و الغَمِّ على مُسْتأْجِريها، خاصةً إذا كان الأجرُ المُتَوَقعُ مُجْزِيًا0 و كان همُّ كل نائحةٍ أنْ تستيقظ كلَّ صباحٍ فتجدَ القومَ قد نُكِبُوا في أحدهم، لمَ لا، وهي تقتاتُ على مصائِبِ الآخرين و هُمُومِهِم0 فَعلَ الزمنُ فعلَهُ في النَّاسِ، فتلاشَتْ تلك العاداتُ الشَّنِيعَةُ، و لم يعدْ لها أثرٌ إلاَّ في بعضِ البوَادي التي غَلبَ على أهلِها الجهلُ و الأميّةُ اللّذان إن حَلاَّ بِأمّةٍ، فَتَكَا بها و سَلَبَاها كلَّ دِفاعَاتِها0 و لئن اندثرت مثلُ تلك الجهالات أو تكاد، إلا أن ما يُشبِهُها برزَ من جديد و أخذ يتَمظْهَرُ في ثوبٍ آخرَ، و يُلبسُ أهلها لَبوسَ المدنيّةِ و التحضّرِ، ادِّعاءًا0 و كان المستعمرُ الذي وطئ أرضنا و استَباحَ كلَّ شيءٍ فِيها و عَلَيها، لا يفتأُ يَبكِي على ما حلَّ بنا نتيجةً لثقافتنا المتخلفةِ بزَعْمِه، فسخَّر لأجلِ ذلك دَهَاقِنَةَ الفِكْرِ و كَهَنُوتَهُ يَبْكُونَ مَا أَهَمّنا0 و لمّا لم يكُن لَهُم ما أرَادُوا، و بدَأت بَوادِرُ التَّخَلُّصِ منهم تأخذ طريقها إلى النفوس الأبِيَّةِ التِي اسْتَفَاقَتْ مِن غَفوتها و اسْتَرجَعَتْ بعضًا من عناصر شخصيتها(1) قَيّضوا لهذه الأمة نُوّابا عنهم، يتكلمون لغتَها و يَنْتحِلُون بعضًا من صِفاتِها، و استأجروهم ليقوموا مقامهم فيواصلوا ما بدؤوه من نحيبٍ بل و تخْرِيبٍ0 بدأ عُواءُ هؤلاءِ مع فجرِ ما اصْطُلِحَ على تَسْمِيَتِه بِالإستقلال عن الغُزَاةِ، و كان أوّلُ مُصَابِهِم الجَلَلُ فقدان وليُّ نِعمتهم، فوجب البكاءُ عليه و على ما حَمَلَ معه من ثقافةٍ هيَ البديلُ لما نكتنزُه و نعتنقُه و الذي يعتقدونه، زُورًا و بُهتانًا، سببًا في ما نُعانِيه من تَخَلُّفٍ و انحِطاطٍ0 و كانت أولى تعبيراتُ هذا البديلِ المُسْتأجَرِ الذي عانَى و لا يزالُ من عُقدةِ الدُّونيَّةِ، الاسْتِبْقَاءُ على أكثر من ذِكْرَى لِمسْتَأجِرِه، من ذلك إطلاقُ أسماءَ لها صِلةٌ بالمفقودِ على أهمِّ دُروبِ المُدنِ الكُبرى (2)، و ذلك لترويض الناس على قبولِ العدوِّ، فالعادةُ سبيلٌ إلى الإستِئاسِ و التَّسليمِ0 و كأن غَرْناطةَ أو المِرْيَةَ أو الحَمْراءَ أو بغْدادَ أو دِمَشْق أو غيرها من حواضِر الإسلام المتألِّقةِ في شتَّى فُنونِ المعْرفةِ، و التي لها الفضلُ على العَالَمين على مرِّ الدُّهُورِ، لا يمكنُها أن تَتبوَّأَ منْزِلَةَ مُدِنِ أَسْيَادهم منَ الفِرنْجَة 0 لم يتوقّف الأمرُ عندَ هذا فَحَسْبُ، بل تعدَّاهُ إلى ما هو أَنْكَى، فاسْتُدْعِيَتْ رموزُ الاستعمار إلى بيوت بعضهم و مكاتب عملهم، فبلغ الخطبُ أَعْلَى قيادات الدولة (3) 0 تواصل الاتكاءُ على الرمزيَّةِ التي لا تخلُو من أبْعادٍ، الهدَفُ الأساسُ منها الاستبقاءُ على التَّبعيِّةِ و الروحِ الانهزامية، فحملَتِ اللِّواءَ نائحاتٌ أُخْرَياتٌ، و لكن هذه المرَّةُ على شاكلةٍ أشدُّ ضراوةً، فكانَ البكاءُ حينئذٍ على الأنثى التي لا تُجاري شقيقاتها الإفرنجيات في التحرًّر التامِّ مِن رِبْقةِ القِيَمِ الأخلاقيَّةِ و الأسريَّةِ، فحُورِبتْ الأُبوَةُ (4) و القَوَامَةُ بدعْوَى ارتهانُ المرأةِ في كلِّ شؤونها للرجل، و لا يَعدُو أن يكون هذا الأخيرُ، الزوجُ أو الأبُ أو الأخ، فكان الكتابُ المدرسيُّ الوِعاءُ الأمثل لكُلّ تِلكَ السمُومِ و غيرها كثيرٌ0 وفي ذلك حربٌ بأتمّ معنى الكلمةِ و نيابةً عن المستأجرِ على اللَّبِنةِ و الركيزة الأولى للمجتمع0 و من هنا يأتي التهدِيدُ الاجتماعيُّ و الخرابُ القيَمِي، و قدْ حصلَ الشَّيءٌ الكثيرُ من هذا و ذاك، بِكُلِّ أسَفٍ و حزن شديدَين (5)0 و لما استفَاقَ الناسُ من غَفوَتِهم و تحرّرُوا، و بَدَأُوا يصْطَلِحُون معَ هويَّتِهم و تاريخِهِم و طفِقُوا يَنزَعُونَ عنهم رُكامَ الاستِبْدادِ، اشتدّ نحيبُ النَّائحَةِ خَوفًا من أن تُصادَرَ حُريَّةُ الحَرَائرِ الجِنْسيةِ و المَبيتُ خارج الأسوار العائليَّةِ، و تعودَ سطوةُ الثقافةِ الظَّلامِيَّة (6) فتَطْمسَ على وُجُوهِهِم و على وجُوهِ مُسْتأجِريهِم 0 لكن النُّوَاحَ هذه المرة سَيُودِي بِالنَّائِحَةِ، و لن تَجدَ من يبْكي فقْدَها هيَ الأُخرى0 فَلَبِئْسَ الأَجيرُ و لَبِئْسَ ما يَمْتَهِنُ0 (1): من أهمها العودة إلى منابع الإسلام الأولى و استعادة مآثره0 (2): مثال ذلك، أهمُّ شَارِعَينِ بقلب العاصمة التونسية تَسَمَّيَا بفرنسا و عاصِمَتها0 (3): كانت صور مُنْدَاسْ فرَانْسْ ، أحدُ رُموزِ الاستعمار الفرنسي، لا تغادِرُ مكتبَ بورقيبة، الرئيس التونسي الأسبق0 (4): سلطةُ الأبِ كقيِّمٍ على الأسرة و ما تعلّقَ بالولاية كركن من أركان عقدِ الزواج0 (5): من ذلك، عقُوقٌ و زواجٌ خارجَ الأُطُرِ الشَّرْعيَّةِ و الاجتماعية0 (6): صِفَةٌ يَصِفُ بها العلمانيون كل ما له صلة من قريب أو بعيدٍ بالإسلام و أهله، و هي صفةٌ مستعارَةٌ من تاريخ الثقافة الغربيةِ التي و صفت حقبة القرون الوسطى بعصور الظلام نظرا لما كانت تعانيه من تخلف مطبق مقارنة بالحضارة العربية الإسلامية التي كانت تعيش أزهى أيامها0 بقلم لطفي صالح الهمامي