لو تخيّلنا غير مسلم يقرأ القرآن لأول مرة في حياته، فمن المفترض أن يتأنّى في قراءته ليتدبر معانيه، حتى إذا مرّ بالآية 85 من سورة الأعراف انشدّ ذهنه إلى بقعة جغرافية معينة وهي الشمال الغربي للسعودية، في عمق تاريخي يمتد بين عهدي إبراهيم وموسى عليهما السلم، زمن وجود مملكة عظيمة إسمها مدين، فيستعد لتفاصيل القصة وحيثياتها، وإذا بالآية 91 تحمل نعي القوم ونهاية المشهد بنهاية وجودهم. 7 آيات اختزلت تاريخ حضارة عظيمة. نعم صحيح أنه أسلوب قرآني، ولكن لا بد من أن نتعلم منه ما ينفعنا في حياتنا، لعل أقله: 1 أن نتذكّر، بأنّ ماضينا الذي صنعناه بمشاعرنا وعواطفنا، بآلامنا وآمالنا، بأفكارنا وأعمالنا، ما قدمناه وما نعتزم بذله في حياتنا، (نسأل الله تعالى أن يكون لنا لا علينا) سيكون في يوم من الأيام بين أيدي أجيال من أحفادنا ربما بعد قرون مجرد صفحة واحدة في كتب التاريخ، يطالعها المتعلمون منهم. ولا يزيد عنها إلا باحث مختص، أو شغوف بالروايات والقصص. 2 إذا كان صنّاع بعض الأحداث الآن ، لا قيمة لفعلهم في أزمان بعيدة لاحقة، فما بالك بمن يقضي سائر حياته في متابعتها. فأنت أيها الرسالي أكبر من أفكارك وأفعالك الآنية، فما بالك بأفكار وأفعال غيرك. 3 لا بد وأن نقطع مع الزمن الذي يقف فيه أحدنا خطيبا في الناس، فيشرّق ويغرّب ويطوف كما بدا له بين تشخيص وتحليل وحكم واستخلاص واستدلال إلى أن تبدو على الحاضرين حالة الاعياء دون أن يفهم أحد المطلوب. لندخل مرحلة الكلام الصانع للهمم، للأفكار، للأفعال.. لقد عبر شعيب عليه السلام في جملتين، الآية 85 و86 من سورة الأعراف ، عن الواقع الفاسد في مجتمعه، وقدم مشروعه الاصلاحي، وصاغ مطالبه في قانون، لاشتماله على أوامر ونواهي. فقد جاء فيه: 1- الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة غير الله، لأنهما عماد كل صلاح ونجاح في الدارين. 2- إعلان نبوّته عليه السلام بمعجزات بيّنات، مما يعنى وجوب اتباعه في تنفيذ رسالته. 3- وجوب إيفاء الكيل والميزان، فقد كانت هواية قومه تطفيف الكيل والتلاعب بالموازين، دون اعتبار لظروف المستضعفين. 4- منع الخيانة للناس في أموالهم وأخذها دون حق ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة، وأخذ الرشوة، وسلب الأموال بطرق الاحتيال، ونحو ذلك من المساومات، والغش ولو في غير البيع، ويشمل أيضا هضم الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل. 5- منع الإفساد، وهي كلمة جا معة، قد تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والعلاقات الخارجية والحريات العامة... هذه القضايا الخمس، تمثل طوق نجاة من حدوث تدمير ثاتي وتآكل داخلي للمجتمع، ولذلك جاء في فاصلة الآية ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فكلمة ذلكم إشارة إلى المسائل الخمسة الآنفة. 6- النهي عن قطع الطريق على المارّة لأخذ أموالهم، أي منع الناس من الوصول إلى أهدافهم إلا بعد سلب ما يريده الظالمون لأن هذا الصنيع يحدث اضطرابا في التوازن الاقتصادي، وذلك من خلال التفويت في جزء من الأموال التي جاءت عن طريق العمل أوالاستثمار، لأناس غير منتجين، ليدخلوها في باب الاستهلاك بلا حدود، عوض أن تكون في أيدي أصحابها ينمون بها استثماراتهم، مما يدفع المنتجين لرفع الأسعار لتدارك تلك الخسائر، فيتراجع الطلب على المنتجات المعروضة لغلائها، ويتأثر بالتالي الاقبال على الاستثمار، فتكثر البطالة وينتشر التحيّل والسرقات. أما على المستوى الاجتماعي، فالمتوقع في ظل هذا اللون من الفساد، بروز ظاهرة التباغض بين الإيجابيين في المجتمع، والعصابات الناهبة، وقد يغري الثراء المفرط بلا جهد من ناحية أخرى بعض الضعفاء أو الفاشلين في المجتمع، للاشتراك في هذا التيار الفاسد، برأس مال لا يتجاوز الوقاحة وقسوة القلب، مما يحوّل المجتمع إلى جسم تنهشه أمراض قاتلة. 7- نهيهم عن الصد عن دين الله، لأن في ذلك تعطيل لأمكانية الاصلاح المنقذ للبلاد من دوامة التهالك. 8- إنكاره جعل سبيل الله المستقيمة معوجّة مائلة بالأكاذيب والضلالات وتشويه الحقائق وبث الشبهات والشكوك الملقاة منهم. 9- ذكّرهم بالنعم، لتكون حافزا لهم للحفاظ عليها وحرصا على الاستزادة منها، لأنها من أكبر البواعث على الإيجابية للأفراد والجماعة. 10- ضرورة الاعتبار بمصير السابقين من الأمم، لأنهم بين خيا رين، فإما أن يعتبروا بغيرهم، أو أن يقودهم كبرهم ليكونوا هم عبرة لغيرهم، وقد كانوا مجاورين لقوم لوط عليها السلام، وعلموا ما حاق بهم. آيتين إذا اشتملتا على عشر نقاط، تمثل منظومة تشريعية لإنقاذ المجتمع من الهلاك، مبنيّة على أسس الحق والعدل. وقد استجاب لهذه الدعوة عدد من العقلاء. من المفيد أن نشير إلى أن مؤسسات الفساد مفعّلة في مجمتع مَدْيَن، أما الطاقة المحركة لها فهي التخويف التي سيأتي الحديث عنه. غير أن هذه المؤسسات، ظلت تلقي بآثار خطيرة وفتاكة مع مرور الزمن، على طبقة المستضعفين الذين يمثلون غالبية المجتمع، من شعور بالضيق، وقلق على المستقبل، وخوف على الممتلكات، وكراهية المفسدين، ورغبة في الثأر والإنتقام منهم.. الخ، كل ذلك يمثل طاقة كامنة مخزونة في المجتمع، إلا أنها غير مفعّلة، لأنها مفرقة على آحاد المجتمع، وكان من الممكن أن يستغل شعيب عليها السلام تلك الطاقة، فيكتفي بتفعلها لإنها متوفرة في إطار قوة جماعية تحت راية الإيمان، فيقضي على المفسدين قضاء مبرما . إلا أنه اتجه إلى الفساد لإصلاحه تحت شعار "إنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ" ببرنامج عملي يحتوى على نقاط عشر. وهنا لا بد من طرح إشكالية العلاقة بين الفساد والمفسدين، فهل من الممكن أن ينفك المفسدون عن فسادهم؟ أم أن الفصل بينهما مستحيل، وأن الفساد لا ينتهي إلا بسحق المفسدين؟ لقد صرح شعيب عليه السلام لقومه بأن رسالته تتضمن الخير للجميع بلا تخصيص. مما يعني أن برنامجه لا يحتوي على خير للمستضعفين وشر لغيرهم. وهنا لا بد أن نشير إلى أن مجتمعا بالمواصفات التي لمح إليها خطاب شعيب عليه السلام بما تضمنه من أوامر ونواهي، أصبح يدور حول محور واحد، وهو الشهوات، شهوة التملك، والتفوق، والسيطرة، والتكاثر في الأموال والأولاد، والتكبر، يقابلها، شهورة حب البقاء ولو على حساب الكرامة ، الثأر، والانتقام، والغدر إن أمكن بالمفسدين. أي أن المجتمع يسير بدون برنامج عقلاني، والقانون الاجتماعي السائد هو عبارة عن عادات موروثة. أما الذي أتى به شعيب عليه السلام فهو برامج محدد المعالم، يتضمن أفكارا متكاملة ومنسجمة مع المصلحة الشاملة وضمائر العقلاء. فكان الاقبال على رسالته، وأصبح في المجتمع فئتان متنافرتان، تدخر كل فئة منهما من مشاعر العدوانية للأخرى ما لو نفذت لكان الهلاك. ولذلك جاء الخطاب الرشيد من شعيب عليه السلام بضرورة الالتزام بالصبر للجميع الآية 87 وفيه إشارات مهمة: منها حمل المؤمنين على الصبر على أذى الكفار، وزجر من لم يؤمن، حتى يحكم الله، فيميز الخبيث من الطيب. وفيه أيضا دعوة إلى الحياد فيعيشون بعيدين عن الباطل حتى يحكم الله في مصيرهم. وهذا ما لم يقبله الطواغيب عبر العصور لأن الحياد يعني الخروج عن دائرة التأثير المباشر أو غير المباشر، وبا لتالي إمكانية تطور المحايد بعيدا عن دائرة المراقبة، فتكون المفاجأة. الحقيقة الأخرى التي ساقتها الأية 88 أن نداء الأنبياء لأقوامهم عام، إلا أن فئة واحدة هي التي تتصدى للرد والكلام وهم الملأ، أي الأسياد والأشراف أو بتعبيرنا المعاصر "النخبة" التي لم تناقش خطاب شعيب عليه السلام ورسالته، ولم تقبل بخطة الحياد، وإنما وضعته والمؤمنين من قومه أمام خيارين: إما الابعاد عن البلد، أو الاذعان للقوانين الموروثة ولو بالإكراه. الأمر الثالث الذي جاء به شعيب عليه السلام، الآية 89 ولا يخطر ببال الطواغيب، هو التوكل على الله تعالى واللجوء إليه ليفصل في الأمر. إلا أن نَفَس الطواغيب طويل وعنادهم قوي، لأنهم فاقدي البصيرة، حيث نجدهم يُنهُون آخر أيام حياتهم بتخويف المؤمنين بالخسارة، (قد يكون المال، أو الأمن، أو الوظائف...) الآية 90 إننا أيها الأحباب بحاجة إلى مشروع واضح ومختصر، يحمل عمقا إسلاميا، يكون بركة على الجميع، يدور جهدنا وتفكيرنا ومناقشاتنا حوله، نستعين في صياغته بأهل التخصص لإظهار محاسنه بالواقع المحسوس والأرقام، ونصرف همتنا عن كل ما ليس من ورائه نفع. لأن المحصلة النهائية بعد أجي ال من زمامنا هي أين كنت؟ مع هذا المشروع أو مع ذاك. وما هي مساهمتك فيه؟ تحية طيبة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.