منذ أسابيع اتصل بي أحد أعضاء الحكومة متسائلا عن الكتاب الذي تنوي رئاسة الجمهورية إصداره ودار بيننا حوار حول الهدف والتوقيت والوسائل الواجب اتباعها لمواجهة آلة الفساد. عبرت له عن رأيي بضرورة كشف الحقيقة ليعرف الشعب ما حصل، وهذا ينسحب على كل القطاعات وليس الإعلام فقط، واعتبرت أن العيب ليس بالوسيلة التي توثق التجاوزات سواء كانت كتابا أوكامرا أو غيرها من الوسائل التوثيقية، وللعدالة أن تستعمل ما تراه مناسبا لإرساء حكمها. وعليه وجب التنبيه بأن صدور الكتاب الأول في هذا الوقت يعدّ دخولا في معارك إضافية ليس من مصلحة مؤسسة الرئاسة الدخول فيها لو كانت تتعامل بعقلية الربح والخسارة مع مثل هذه الملفات. واليوم وأنا أتابع الحوار الدائر تزامنا مع نشر الكتاب فإني لا أستغرب الردّ العنيف والمتشنج لبعض من سعوا إلى إتلاف آثار أفعالهم التي توثق تورّطهم في مشاركة نظام الاستبداد ودعمه، ووجدت كالعادة من هو مستعد ومتطوع للعب دور شاهد الزور وطمس الحقيقة. وأغرب ما سمعت وقرأت ما يتعلق برفض حق الشعب في معرفة الحقيقة واتباع مسارات ومتاهات نعرف أولها ولا ندري مآلاتها. ألم يدفع البعض بملف تحصين الثورة إلى خانة العدالة الانتقالية بعدما عجزنا جميعا عن إنجاز المهمة في وقتها؟ ألم يخرج العديد من رموز الفساد من السجون بعدما وجهت اليهم تهم واهية وكأن آلة "بن عليّ" القمعية كانت تشتغل آليا وبدون حاجة لمن يقوم عليها ويغذيها؟ لماذا كل هذا التردد والتراخي في تفعيل العفو التشريعي العام؟ ألم تصبح خدمة الديكتاتورية وطنية وجب التباهي بها؟ أليس هذا جزء من العدالة الانتقالية، وقد تم التطرق إلى هذا الموضوع والربط مرارا بين ما هو مستعجل وضروري وبين العدالة الأنتقالية؟ الجميع ثمّن مبادرة رئاسة الجمهورية بردّ الاعتبار وتكريم مجموعة براكة الساحل وقد كتبت مقالا بعنوان "أما آن لهذا الفارس أن يترجل" وتم التأكيد وقتها بأن هذا التكريم من شأنه التسريع بإعادة الحقوق إلى أصحابها وأن تأخذ العدالة الانتقالية مجراها. كما لا يخفى على أحد بأن رئاسة الجمهورية أنشأت خلية لمتابعة ملف شهداء وجرحى الثورة وأنفقت مئات الملايين لتوفير المستلزمات الضرورية للعلاج والمتابعة. ولكن هذا لا يغني عن المسار الحقيقي وهو مسار العدالة الانتقالية لهؤلاء وذويهم. لا أعتقد بأن هناك من يجادل في حقّ الشعب في معرفة الحقيقة وعلى العدالة الانتقالية أن تقول كلمتها لاحقا في مسألة الفساد بكل أنواعه ولكن حذاري من أن تصبح العدالة الانتقالية آداة لوأد حقوق الناس والتسويف بعقلية "ارجع غدوة". فالجميع يدرك وجود انتظارات كثيرة ومتشعبة وأنا على يقين بأن العاملين على هذا المسار يسعون إلى إحقاق الحق وعليهم أن يعتبروا أن تحقيق أي إنجازفي هذا الأتجاه هو للمصلحة العامة ويجب البناء عليه. أنور ألغربي