إن أبناءنا في حاجة دائمة إلى حافز يشعل رغبتهم في اكتساب القيم والفضائل؛ وقد بدأنا الحديث في مقال سابق عن قضية الحافز القيمي وبينا بعض شروطها، وفي هذا المقال نتحدث عن الاحتياجات الأساسية للإنسان وتأثيرها على الحافز القيمي. ما هو الحافز: تحدثنا من قبل عن أن الحافز هو شيء يدفع الإنسان ويزوده بالطاقة المناسبة لإنجاز الأعمال وفعل السلوكيات، والأطفال إن تعلموا فعل شيء؛ فإن حجر الزاوية الذي يجعلهم يستمرون في فعله ويداومون عليه هو الحافز. الاحتياجات الأساسية للإنسان وتأثيرها على الحافز الداخلي: قديمًا قام أحد علماء النفس بوضع هرم لحاجات الإنسان الأساسية، واعتبر أن الإنسان يولد عند أسفله ثم كلما سد احتياجًا؛ ارتفع إلى الاحتياج الذي بعده وهكذا إلى نهاية الهرم في قمته. وقسَّمه إلى قسمين، القسم الأول: وهو في أسفل الهرم، وأطلق عليه الاحتياجات الأساسية، وهي احتياجات النقص، وهذه الاحتياجات يتضح تكوينها من اسمها، أن الإنسان يولد وهو يريد استكمالها، ولاشك أنها لا تستكمل إلا عن طريق المؤثرات الخارجية، والإنسان الذي لا يستطيع استكمال إحدى هذه الاحتياجات؛ يظل رهينة لها، وقد يتقدم به العمر وهو ما زال يحاول سد احتياجًا أوليًّا وبدائيًّا. وهذه الاحتياجات الأساسية مقسَّمة إلى أربعة أقسام: · الاحتياجات الفسيولوجية. · الاحتياج إلى الأمان. · الاحتياج إلى الحب والانتماء. · الاحتياج إلى احترام الذات. ثم ينشأ بعد الاحتياجات الأساسية احتياج آخر لا تسده إلا الدوافع الداخلية، وهو الاحتياج إلى تحقيق الذات، وهي احتياجات وصفها ماسلو باحتياجات التطور والنمو المستمر، وهذا النوع من الاحتياجات لا يمكن إرضاؤها؛ ولذا يكافح من يصل إلى هذه المرحلة من أجل مزيد من الإنجازات والنجاحات، فهو في احتياج دائم إلى المعرفة والنمو والنجاح. ولذلك؛ إذا أردنا أن نغرس في أطفالنا التحفيز الداخلي، فإننا لابد أن نضمن لهم أن تسد احتياجاتهم الأساسية؛ الفسيولوجية، والأمن، والحب واحترام الذات، وهي لاشك لا تُسد إلا بوسائل خارجية. ويعتمد بناء التحفيز الداخلي على ثلاثة أنواع من الاحتياجات: 1. الحاجة إلى الجدارة: وهي حاجة الإنسان لرؤية نفسه قادرًا على التحكم في بيئته الخارجية بكفاءة، وامتلاكه كافة الإمكانات والقدرات للسيطرة عليها، وتوقع النتائج التي يريد. 2. الحاجة إلى الاعتماد على الذات: وهي الحاجة إلى رؤية الإنسان نفسه قادرًا على اختيار السلوك الذي يريد، دون أن يتأثر بالقوى الخارجية. 3. الحاجة إلى الارتباط: وهي الحاجة إلى أن يدخل الإنسان في أنشطة يعتني فيها بالآخرين، ويعتنون به، ويشعر بالإرضاء من خلال علاقاته الاجتماعية. فهذه الثلاثة احتياجات تصلح أن يعتمد عليها المربون عندما يغرسون الدوافع الداخلية في الأطفال، ولاشك أن المهمة ليست سهلة ولا يسيرة، ولكن عظم الهدف يهون على السالكين صعوبة الطريق. الركيزة الخامسة: الهوية القيمية : وهي أعلى درجات التربية القيمية، فلا نكتفي فيها بإخراج طفل اعتاد على المحافظة على القيم، إنما يتعدى ذلك لتصبح القيم هي رسالته في الحياة، فيهب لها حياته، ويرصد لها وقته وإمكاناته وطاقاته. إن كل أمة تحتاج لبضعة أفراد من أبنائها، انخلعوا عن ذواتهم الشخصية، ونذروا أنفسهم لمصالح الأمة العليا، وأهداف مجتمعاتهم السامية، فتقوم على أكتافهم نهضتها وحضارتها. وحين نتكلم عن الهوية القيمية، ونبحث لها عن رواد وأمثلة واقعية، فلا ريب أن المجتمع الإسلامي الأول يطرح نفسه وبقوة باعتباره أكثر مجتمع توفرت فيه هذه النماذج الرائدة، التي نذرت نفسها لإعلاء كلمة الله، لا يبتغون من ذلك منصبًا دنيويًّا أو رفعة بين العالمين، إنما الذي حرَّك أفئدتهم وأشعل حماستهم هي القيم العليا، التي زرعها فيهم كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذا ربعي بن عامر، يلخِّص لنا معنى الهوية القيمية، ومعنى العيش من أجل رسالة عظيمة وغاية نبيلة، حين يقول لرستم قائد جيش الروم، رادًّا على سؤال: (ما الذي جاء بكم؟)، فقد جاء الرد مفعمًا بكل دروس المدرسة العظيمة التي تخرَّج منها، وهي مدرسة النبوة، قال: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) [البداية والنهاية، ابن كثير، (7/39)]. إن هذه الكلمات حيَّة نابضة بالرسالة القيمية، التي يحملها هذا الصحابي بين جنباته، وإن مجتمعنا الآن وهو يحاول أن يبحث طريقًا للنهضة؛ لابد أن يعي أن عدم وجود هؤلاء الأفراد يعني أن هذا الحلم ما زال بعيدًا. حاول أن تقوم بهذه التجربة: ائت بورقة بيضاء وقلم، ثم حاول أن تعرِّف نفسك في عبارة لا تتجاوز العشر كلمات. إن كل إنسان بعد أن يكتب اسمه، يحتار في تعريف نفسه بهذه الكلمات الموجزة، فربما يقوم بعضنا بأدوار كثيرة في حياته لكن لا يعني ذلك أنها جزء من هويته، أو جزء من شخصيته، بينما هناك أدوار أخرى يعتبرها الإنسان هي هويته، وهي المعبِّرة عن قيمه واعتقاداته الكبرى. فمثلًا؛ قد يكون إنسان له اهتمامات رياضية، وهو يعمل مهندسًا، كما أنه رب أسرة مكونة من زوجة وثلاثة أولاد، وله كذلك أنشطة خيرية، فهذا الإنسان له عدة اهتمامات وأنشطة، لكن لو سألته بصدق: (ما هي هويتك الحقيقية؟ ما هي الأنشطة المعبِّرة عن اهتماماتك؟)، سيقول: (أني رب لأسرة)، ولذلك سوف تجده يبذل كل ما يستطيع لتحسين مستوى معيشة الأسرة، وتجد اهتمامه ومشاعره منصبة على أسرته، يهتم بأمرها، ويحزن لحزنها ويفرح لفرحها، وهكذا. وكلنا يحمل هوية يتمثل فيها أهم الأنشطة التي يعتبرها أساس شخصيته ورسالته في الحياة، فإذا أردنا النهضة والريادة فلنجتهد في إخراج أجيال يعرِّفون أنفسهم على أساس رسالة القيم، ويعتبرون هويتهم الحقيقية ليست في عمل ولا ثروة ولا تقبل اجتماعي، إنما هويتهم الحقيقية في أنهم يحملون رسالة عظيمة، وقيم نبيلة، يرون أن يبذولوا أوقاتهم ومجهودهم وأموالهم، بل وربما حياتهم، من أجل الدفا ع عن تلك القيم ونشرها بين العباد، ومن هنا يأتي السؤال الهام؟ [كيف تغرس القيم في طفلك، د.محمد صديق]. وفي الأخير، ينبغي على الآباء أن يهتموا تمام الاهتمام باحتياجات الأطفال ودراستها، ويتفهموا جيدًا دورها الفاعل وتأثيرها على الحافز القيمي، حتى يتمكنوا من بناء منظومة قيمية سليمة لدى أبنائهم.