كلنا نعلم علم اليقين من المواطن البسيط إلى الأستاذ والخبير في السياسة والتحليل بأن أوضاع البلاد الاقتصادية والإجتماعية والأمنية ليست على ما يرام وليس بالجديد ما صرح به رئيس الحكومة المؤقت السيد مهدي جمعة. ورغم ما كانت تتشدق به حكومة الترويكا المتخلية بزعامة حزب النهضة من تحسن مطرد للأوضاع فالجميع على علم تام بأن الحالة ليست كما كانوا يسوقون وأن ما خفي كان أعظم. ولا أظن أن رئيس الحكومة جاهر بتصريحه التحذيري وكأنه قام باكتشاف عظيم بعد البحث والتحليل والتدقيق ووجد الحلول الجذرية لكل مشاكلنا بل من اجل الحيطة والتنبه لما ستقوم به حكومته من سياسة اقتصادية تقشفية قاسية ستؤثر سلبا على الشرائح المهمشة والمتوسطة من المواطنين وهو بذلك سيعود بنا إلى أعوام الثمانينات من القرن الماضي زمن برنامج التعديل الهيكلي سيء الذكر والذي نتجت عنه الأحداث المؤلمة المعروفة. فهذه الحكومة المستقلة نظريا عن الأحزاب وضغوطاتها أتت للقيام بمهمتين أساسيتين، الأولى لتعبيد الطريق نحو الانتخابات وهو البعد السياسي والثانية لتأطير الاقتصاد وترشيده ضمن ضوابط صندوق النقد الدولي ومانحي القروض والضمانات. والجميع يعرف أن هذه الدوائر العالمية لتتحكم في بلد ما تغرقه في الديون عند اشتداد الأزمات ثم تأتي بعد حين لتملي عليه التمشي الاقتصادي الذي تريده لخدمة مصالحها وأهدافها. كما تأتي بمن ينفذ سياساتها من الشخوص وتبعد من لا ترغب فيه طوعا أو قسرا. فذكرياتنا المؤلمة مع هذه الدوائر تفيد بأن التوجه نحو الليبرالية المتوحشة والتحرر الاقتصادي والسلطة المتغولة للسوق والضغط على الأجور وتجميدها وتسريح العمال والتفريط في المؤسسات العمومية للقطاع الخاص ستكون خارطة طريق هذه الحكومة التي ستكون في حل من المحاسبة والتأثير الحزبي بما أنها مستقلة وظرفية وليست على محك الاستحقاق الانتخابي. فالمصارحة بتردي الأوضاع الاقتصادية بالخصوص دون تحميل المتسبب في ذلك من ناحية أولى ودون تقديم الحلول العملية من ناحية ثانية يترك الباب مفتوحا للتأويلات والغموض سيد الموقف والقصد من ذلك عدم إثارة الرأي العام. ولسائل أن يسأل هل ستكون هذه السياسة الاقتصادية عادلة بحيث يتحمل كل طرف الوزر حسب قدرته على ذلك ولا تتحمل الطبقات الفقيرة والمتوسطة والأجراء عموما أخطاء الحكومات الماضية والتي اقترضت الأموال الطائلة بدون حساب ومحاسبة ولم تنجز إلا القليل ؟ أم سيتم المضي قدما إلى الأمام وكأن شيئا لم يكن و عفا الله عما سلف كما يقال. فالخوف كل الخوف أن تتجه السياسة التقشفية التي يلمح لها رئيس الحكومة إلى طحن الطبقة الوسطى نهائيا ورميها في عداد المتسولين وفي ذلك خراب البلد والدخول في أزمات طاحنة وتقلبات سياسية مثلما حدث في الثمانينات من القرض الماضي.وقد كان الجميع ينتظر تحسنا في الأحوال والعودة إلى الأوضاع الطبيعية بعد ثلاث سنوات من الثورة وتحقيق البعض من المطالب الشعبية الملحة لكن الأمور لم تكن كذلك وقد جاء التأكيد من فم رئيس الحكومة الذي كان ينتمي منذ أيام قليلة للحكومة المتخلية. ولإقناع الناس بهذه السياسة لا بد من المرور بمرحلة المحاسبة ولو من الناحية السياسية للفترة الماضية والتي لم تتبع الحوكمة الرشيدة واتبعت سياسة اقتصادية توسعية للتمتع بالامتيازات وتوظيف الموالين والمريدين على حساب ميزانية الدولة والعين على الكراسي والانتخابات والسلطة. كما يجب أن تتحمل الدولة لوظيفتها ودورها الاجتماعي لتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر والبطالة والتخلف ولا تترك الحبل على الغارب للجشعين والبلطجية وأصحاب النفوذ ليعيثوا في البلاد فسادا وتنحاز لأصحاب المال والمرتبطين بالدوائر الأجنبية. فالطبقة المتوسطة وهي الضامنة للاستقرار والإنتاج والاستهلاك والادخار والمحرك الأساسي للاقتصاد ستتعرض في ظل سياسة اقتصادية تضييقية للتآكل والجمود فيصيب الاقتصاد الركود لأن الطبقة الغنية المرتبطة بالسوق الخارجية والمواد المترفة ليس لها أي أثر على السوق الداخلية. كما أنه على مصالح الدولة وهياكلها أن تبدأ بتطبيق الحوكمة الرشيدة على نفسها أولا بالضغط على المصاريف كالتخلي عن السيارات الوظيفية وأذون الوقود والمهمات للخارج والمستشارين وتعدد الوظائف والهياكل الصورية.