ان المدقق في الوضع السياسي العام التونسي يلحض تسابقا محموما لمسارين متناقضين ، الأول هو مسارالثورة و الانتخابات وهو ظاهر للعيان ، فنرى التسارع لكسب بعض الوجوه ذات الاشعاع الجهوى من بعض الاحزاب لرئاسة القائمات التشريعية وتنازع داخلي متفجّر على تلك الرئاسة في البعض الآخر تجاوز حدّ البكائيات الى الاستقالات والانشقاقات ، فاخبار التحركات والاتصالات المجنونة للاعداد لتلك القوائم واخبار التسريبات والاشاعات والصراعات تكاد تملأ الصحف والشاشات ، اذ تشهد الساحة السياسية جوّا يبشر بمنازعة انتخابية ساخنة ويبعث نوعا من الارتياح والتفاؤل بمستقبل المسار الانتقالي والديمقراطيى ّفي بلادنا ، خاصة بعد الهدوء النسبي للايادي الارهابية التى تبدو منشغلة بالعملية الانتخابية وبمحاولة التحكم المسبق في نتائجها والمسار الثاني هو مسار صامت وخفى يتسرب ببطء وثبات كالمياه الآسنة ، وهو مسار شامل ومتكامل يتقدم نحو استعادة الدولة الكليانية البوليسية القمعية الفاسدة التى لم تصلح ولن تصلح ، ويبدأ هذا المسار على المستوى الحكومي ، فما يقوم به السيد جمعة من ترقيات وتعيينات سواء في الادارة اوفي مواقع النفوذ السياسي ، بحجة المراجعة هو نفسه تقريبا ما كان يقوم به الباجي قايد السبسي اثناء توليه رئاسة الحكومة وبشكل اكثر سوءا ، فهو يعيد كل اذرع النظام المنهار في 14 جانفي 2011 الى مواقعها ويدعمها بوجوه جديدة قد تكون اكثر تشددا وتطرفا من تلك التى كانت بما يهىء الوضع لحكم طرف واحد وهو التجمع المنحل لا غير ، ويسدم كل ابواب الاصلاح المستقبلي ويعطل كل حكم جديد لا يندرج في تلك المنظومة ، ويمتد ذلك المسار على مستوى الممارسة الامنية ، اذ بدأت ادوات ووسائل القمع تعود بقوة وبلا رقيب، فعدنا الى اغلاق المساجد بتعليمات شفاهية مجهولة المصدر والسند القانوني وتجميد انشطة كل الجمعيات المحسوبة على الاسلاميين بكل مشاربهم وتوجهاهم بدءا بالروضات القرأنية التى يشرف عليها السلفيون في معظمها وصولا الى الجمعيات التنموية التى يديرها مقربون من الاسلاميين المعتدلين ، والملفت في تلك الممارسات الامنية انها تخرق القانون بكل صلافة وتعتمد التدخل الامني المباشر بغير اي سند قانوني ،مما يعيدنا الى ممارسات بن على وعصابته ولعل طريقة تجميد نشاط الجمعيات افضل نموذج وجب بسطه وشرحه: 1)حول تاسيس الجمعيات وتجميد نشاطها وحلها في القانون التونسي ان النص الوحيد المنظم للجمعيات في تونس حاليا هو المرسوم عدد 88 المؤرخ في 24 سبتمر 2011 الذي الغى صراحة القانون عدد 154 لسنة 1959(فصل46). تخضع الجمعية طبق المرسوم المذكور لنظام التصريح اثناء تاسيسها(فصل 10) وليس لنظام الترخيص ،اي انها تتكون بمجرد اعلام بالوجود يوجه برسالة مضمونة الوصول للكاتب العام للحكومة باشهاد عدل منفذ . تعليق نشاط الجمعية لا يمكن ان يتم الا باذن قضائي في الحالة الاولى يصدره رئيس المحكمة الابتدائية بتونس استعجاليا (حكم استعجالي ) بطلب من الكاتب العام للحكومة(فصل45 فقرة 2) بعد اجراء وجوبي يكون شرطا لصحة القيام وهو اعلام الجمعية بالمخالفات وامهالها شهر لازالتها ، وتعليق النشاط لا يمكن ان تتجاوز مدته شهر وفي صورة عدم نشر قضية اصلية في حل الجمعية فانه بانتهاء اجل الشهر تواصل الجمعية نشاطها . حل الجمعية من الاخصاص المطلق الاصلي للمحكمة ابتدائية بتونس بطلب من الكاتب العام للحكومة (حكم ابتدائي اصلي يقع تنفيذه بالقوة العامة ). 2) ملاحظات تتعلق بالاجراءات الاخيرة المتخذة بخصوص الجمعيات المتعلقة بتجميد النشاط ومدى قانونيتها وقع التنبيه شفاهيا على عدد كبير من الجمعيات في اغلبها يديرها اشخاص محسوبون على الاسلام السياسي ، من قبل رئيس المنطقة او رؤساء المراكزيعلمونهم فيها بضرورة تجميد نشاط الجمعية بقرار حكومي مجهول الهوية ومجهول السند القانوني ،ويشيرون عليهم بالتوجه للولاية لأنها هي التى اعطت الاذن بتنفيذ القرار الولاة لا يسلمون اوراقا مكتوبة تتضمن قرار التجميد ولكن يستندون شفاهيا في التبرير الى امر 24 مارس 1989 المتعلق بتفويض بعض صلاحيات الوزارة الاولى ووزير الداخلية للولاة ومنها الفصل 06 الذي ينص على تفويض وزير الداخلية للوالي تأشيرة القوانين الأساسية للجمعيات الثقافية أو الرياضية والموافقة على العطايا والهبات لفائدة الجمعيات الاسعافية أو الخيرية المنصوص عليها بقانون الجمعيات ، وحيث ان الفصل 06 من هذا الامر هو نص تطبيقي لقانون الجمعيات لعام 1959 الملغى صراحة بمرسوم الجمعيات الجديد المذكور ، ولو افترضنا جدلا انطباق هذا الامر التطبيقي على المرسوم الجديد وهو مخالف لابجديات القانون فانه لا يمكن ان يتعارض مع النص الاصلي الذي انهى الترخيص المسبق للجمعيات واخضعها لمجرد الاعلام ولا صلاحية لوزير الداخلية في منح التاشيرة للجمعيات ، ولا يمكنه ان يفوض صلاحية لا يملكها اصلا كما ان الامر المذكور خول تفويض منح التأشيرات ولم يفوض تجميد النشاط او حل الجمعية لذلك لما يتوجه المسؤولون عن الجمعية الي الوالي فانه يعلمهم بقرار التجميد بصفة شفاهية ايضا ويقول انه قرار حكومي دون ان يمدهم باية وثيقة رسمية تتضمن اي قرار، علما وان المرسوم الاخيرالصادر في 2011 يمنع صراحة على الحكومة عرقلة عمل الجمعيات،.. يخاف المسؤولون على الجمعية من الصاق تهمة الارهاب بهم فيغلقون الجمعية فورا وخاصة الجمعيات القرانية . خلاصة القول ان الممارسة الاخيرة المتعلقة بالضغط المعنوى والمادي واعتماد التخويف والترهيب لاغلاق الجمعيات المحسوبة على الاسلام السياسي عموما هي ممارسات لا تخضع لاي سند قانوني وهي منذرة بعودة الدولة البوليسية القمعية الاستبدادية السلطوية التى لا تحترم القوانين. ،كما عاد ايضا تلفيق القضايا للمحسوبين على التدين عموما دون تمييز ، فكثير من الشباب المتدين التى لم تثبت له اية علاقة بالارهاب هو رهن الاعتقال في قضايا بعنوان حق عام ولكنها في الحقيقة سياسية بامتياز كاتهام مجموعات كبيرة من الشباب في حي احمد الشريشي بالكاف وأخرين في بلدة السرس بتكوين وفاق للاعتداء على الاشخاص والاملاك على اثر احداث شغب عادية ومواجهات بين مجموعات اقرب الى العروشية منها الى التدين، كانت نشرة تونس 07 تقول عنهم اثناء حكم الترويكا "محتجين غاضبين " وتذيع تصريحاتهم النارية في نشرات الثامنة ولا يتابعون قضائيا بالمرة ، واصبحت الآن تدير وجوههم الى الحائط وتظهر لنا ظهورهم وتسميهم "خلية ارهابيين خطيرة لمجرد وجود بعض الملحين داخلهم ، ليتضح فيما بعد ان احدهم فنان راب لا علاقة له بالتدين اصلا فضلا عن الجماعات الارهابية ، وما زال اغلبهم يقبعون داخل السجون دون ايه ادله في حق معظمهم ، يضاف لذلك الهرسلة الامنية التى يتعرض لها كل المتدينين الملتحين دون تمييز يذكر ، فقد وصل حد المضايقة بشاب في مدينة الكاف ضاق ذرعا بذلك الى الاعتداء على نفسه بمركز الامن بنصف " لام حلاقة " فقطّع شرايينه كطريقة للاحتجاج ، فبقي لمدة تقارب 15 يوما موقوفا بغير سبب مقنع ثم احيل على القضاء ، (الذي ما زال يعاني ضغط الدولة البوليسية وما زال متاثرا بالاعلام الفاسد) ، احيل بتهمة مسك وحمل ونقل سلاح ابيض بدون رخصة لتقضى المحكمة بسجنه لاربعة اشهر نافذة من اجل ذلك ؟(السلاح هو نصف موسى حلاقة :اعتبرته المحكمة سلاح ابيض يحتاج الى رخصة من مدير الامن لمسكه ؟) ويختتم مسار الردة بالوجوه التجمعية الخطيرة على الثورة ومسارها ، الملطخة ايديهم بالرشوة السياسية في عهد بن على وبسرقة اموال التونسيين وانتهاك كرامتهم واستباحة دمائهم ، والتى تقترحها الاحزاب التجمعية على راس قائماتها الاتخابية التشريعية ، وحتى الرئاسية ، فكل شىء في ذلك المسار الصامت المدعوم دوليا وعربيا واقليميا والذي لا يكشفه الاعلام المتواطىء والنوفمبري يوحي بانه يتقدم نحو الردة وعودة تونس الى السائد العربي الذي لا يشذ عن خيارين : الفوضى او الاستبداد ، فهل يصمد التونسيون ويستطيعون المحافظة على مسارهم الانتقالي ، وهل لدينا الاستعداد الكافي للتضحية والبذل والعطاء للدفاع عنه وهل لدينا الوسائل الكفيلة بذلك ؟؟