عندما تتصفح حلقات تاريخ المشرق العربي القديم تستطع تفكيك رموز وطلاسم ما تعايشه المنطقة اليوم من أحداث تبدو غير مألوفة، وفي هذا الصدد أقول إن دمشق وغوطة الشام ربما لا تبعد عن مدينتي نابُلس الفلسطينية سوى عشرات الكيلومترات، إضافة لعناصر الثقافة المجتمعية المتقاربة حتى في دينامياتها الحياتية البسيطة تجدها مشتركة بين المدينتين ومختلف مُدن بلاد الشام العتيدة، ولذلك ما يحدث في أصقاع الشام له إنعكاسات وتأثيرات مباشرة على فلسطين وسائر أرجاء الإقليم، وبالمثل يندرج ذلك على ما يحدث في مصر وسيناء. والجديد في الأمر ذلك التمدد السريع والقوي لعناصر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على أرض الشام والعراق، وما دفعني لكتابة هذه المقالة هو طبيعة محتوى بعض الفيديوهات المنتشرة على صفحات شبكات التواصل الإجتماعي وأخرها الفيديو الخاص في مشهد تَمكُن عناصر تنظيم الدولة من إقتحام مطار الطبقة السوري الحصين بموقعه وإمكانياته، وما تبعهُ من تمكن عناصر التنظيم من بسط سيطرتهم على الموقع بمنتها السرعة والدهاء، حيث عرض الفيديو مشاهد لم نتصورها إلا في ملاحم التراث الحربي لدى بلاد الإغريق "اليونان" وصراعاتهم مع الفُرس، وتخلل هذا الفيديو مشاهد غير إنسانية ومنها مظاهر القتل الجماعي لمن يقع بين أيدي عناصر تنظيم الدولة من أسرى الجيش السوري بعد إستسلامهم، ويبدو بأن هذا الأسلوب أسهم في نشر الرعب بين صفوف عناصر الجيش السوري في مجمل سوريا، وهذا ما يبرر فرار جنود آل الأسد في مجمل المواجهات مع عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة ودير الزور. ويبدو بأن ممارسات القتل العشوائي والتصفية الميدانية لخصومهم أسهمت في تسريع تمددهم في أرجاء القُطر السوري والعراق، وما يحدث على أرض الشام هو بمثابة تحولات تاريخية عنيفة تؤسس لبناء مشرق عربي مختلف، وربما قد يتم هدم عديد من النظم السياسية والحدود الوهمية خلال الأشهُر أو السنوات القادمة، ويبدو بأننا قادمون على أحداث جسام لم يشهدها المشرق العربي إلا قبيل التوسع اليوناني والفارسي والروماني في المنطقة، وما تبع ذلك من موجات الفتح الإسلامي لتَرِكَة هذه الإمبراطوريات القديمة، فإنهيار النُظم القومية والقُطرية "تحالف الأقليات" اليوم بمثابة أمر حتمي يضع نهاية للتقسيمات الإستعمارية، فمنذ قرن مضى تم تجاهل مطالب الأكثرية السكانية التي تقطن هذه الأقاليم على حساب التَفَرُد والخضوع لِحُكم الأقليات المكونة من طوائف وعرقيات وتوجهات فكرية محدودة الإنتشار. وأرى بأن الحشد الأممي الذي تقوده اليوم الولاياتالمتحدةالأمريكية للحد من توسع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" لن يتمكن من تحقيق مبتغاه، وذلك لآن التنظيم يشهد حركة تمدد سريعة وهو يعيش مرحلة يطلق عليها تاريخياً "الفتوة" أو "الشباب"، ولا يمكن لنا أن نتوقع لداعش إنتكاسة مرحلية كما حدث لحركة طالبان عام 2007م، وحتى طالبان لم تتمكن الولاياتالمتحدة ودول الجوار من القضاء عليها، وهنا الأمر معقد جداً، فإن القوى الإقليمية سواءً شاركت أو لم تشارك في إجتماع "جدة" لن تستطيع أن تحسم أمرها بجدية، وهي أنظمة غير مرتاحة لما قد يحدث من صراعات نفوذ إقليمي بعد إستهداف داعش أو تقليم أظافرها، فمجمل دول الإقليم المحيط بسوريا لها حساباتها التوسعية في أرض الشام والعراق، ويصعب على الولاياتالمتحدة إعادة توزيع المصالح ومناطق النفوذ بين دول الإقليم كما فعلت في العراق بعد عام 2003م، وحتى في العراق تبين فيما بعد حجم فَشل سياسة الولاياتالمتحدة في توزيع النفوذ والمصالح بين حليفاتها، وبمجرد إنسحابها من العراق عام 2011م إنفجرت الأزمات السياسية في العراق، وبالمحصلة النهائية إنفرط عقال الشام وأسهم ذلك في نمو وتضاعف حجم ونفوذ تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وذلك الحَدَث لم يتم الا نتاج لواقع سياسي معقد تعيشه المنطقة، ومن الطبيعي أن تتحمل وِزر ما يحدث من إخفاقات وأحداث مؤلمة تلك المنظومة العربية التقليدية التي سمحت لدول الإقليم وللولايات المتحدةالأمريكية أن تعبث بالأمن القومي العربي، فظاهرة "داعش" خرجت من رحم هذا المشهد، وهي ربما لعنة مشرقية قديمة، وهي تعبير عن مشيئة الله، فالمنطقة أضحت تَعُج بالآثام والمعاصي والظلمات، وربما تحتاج لعصا وسيف ظالم أو صالح يُزيل هذا الركام الغَث، وهو ركام وَليد قرن عايشته المنطقة وخضعت له وفق معطيات ومحددات موروث إستعماري تجسد في إتفاقيات الرُبع الأول من القرن الماضي ومن ضمنها سايكس بيكو 1916م ووعد بلفور 1917م وسان ريمو 1920م. ملاحظة: يعض محتوى هذه المقالة لا تُعَبِر بالضرورة عن معتقدات الكاتب.